سر دخول الكاف على لفظ (المَثل) بفتح الميم والثاء
سر دخول الكاف على لفظ المَثل، بفتح الميم والثاء في قوله - تعالى -: "مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ" [البقرة: 17- 18].
لقد ثبت بما ذكرناه في مقالنا السابق: (من أسرار الإعجاز البياني في القرآن الكريم - سر دخول الكاف على لفظ المثل بكسر الميم) أن المِثل، بكسر الميم، هو لفظٌ يدل على المساواة بين شيئين متفقين في الجنس، في تمام الحقيقة والماهية، وأن المَثل، بفتحتين، هو لفظٌ يدل على المساواة بين شيئين متفقين في الجنس، في تمام الصفات الخارجة عن الحقيقة والماهية، وبينا الفرقَ بين المماثلة، والمساواة من جهة، والفرقَ بينها، وبين المناظرة والمشابهة من جهة أخرى، ثم تحدثنا عن سر دخول الكاف على لفظ المِثل، في قوله - تعالى -: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ"[الشورى: 11].
وفي هذا المقال سنتحدث عن سر دخل الكاف على لفظ المَثل، بفتحتين، في نحو قوله - تعالى -في حق المنافقين: "مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ" [البقرة: 17- 18] وهو أول تشبيه تمثيلي ورد في القرآن الكريم، وقد ضلَّ النحاة والمفسرون في تأويله- عن غير قصد منهم- ضلالاً كبيرًا، كما ضلوا في تأويل قوله - تعالى -: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ"[الشورى: 11].
فنقول بعون الله وتعليمه: لمَّا بيَّن الله - تعالى -حقيقة أحوال المنافقين ومواقفهم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، والقرآن الكريم، وكشف عن مكنون صدورهم، وفضح نفاقهم، وكذبهم، وخداعهم، في الآيات، التي سبقت هاتين الآيتين من سورة البقرة، أراد الله - تعالى -أن يكشفَ عن تلك الأحوال والمواقف كشفًا تامًّا، ويبرزَها في معرض المحسوس المشاهد؛ فأتبعها - سبحانه - بضرب هذا المثل، والمثل الذي بعده، زيادة في التوضيح والتقرير، ومبالغة في البيان، فقال جل جلاله: "مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ* أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ* يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [البقرة: 17- 20]. وهما- كما قال البيضاوي- مثلان لكلِّ من آتاه الله ضربًا من الهدى، فأضاعه، ولم يتوصلْ به إلى نعيم الأبد، فبقي متحيِّرًا متحسِّرًا، ويدخل في عمومه هؤلاء المنافقون؛ فإنهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم من الحق، باستبطان الكفر وإظهاره، حين خلوا إلى شياطينهم: "وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ* اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ* أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ" [البقرة: 14- 16].
فهؤلاء المنافقون الذين، استحبوا العمى على النور، واشترَوا الضلالة بالهدى، بعدما تبين لهم الحق: مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا..أو كصيِّب من السماء.وجمهور المفسرين على أن المثل الأول مضروب لطائفة من المنافقين؛ وهم الذين آمنوا ثم كفروا، وأن المثل الثاني مضروب لطائفة أخرى غير الأولى؛ وهم الذين لم يزالوا على نفاقهم مترددين بين الإيمان والكفر.وعلى هذا القول كثير من المعاصرين؛ ومنهم الشيخ حسن حبنكة الميداني، ونصُّ قوله في ذلك: ” في هذا النص مثلان ضربهما الله لمجموع المنافقين، ولدى تحليلهما بنظراتٍ ثاقباتٍ، يتبين لنا أنهما يدلان على أن المنافقين صِنفان، وأن كلَّ مثل منهما يُلقي الضَّوءَ على صنف من صنفَيْ المنافقين.
فالمثل الأول منهما: تضمَّن تشبيهًا لحالة الصنف الأشد من صنفي المنافقين؛ وهو الصنف الذي مرَدَ على النفاق، بعد رؤيته أضواءَ هداية القرآن، وسماعه إنذارات عذاب الله للكافرين. ولما مرَدَ على النفاق ملتزمًا الثبات في موقع الكفر، طمس الله بصيرته بقانونه القدري.
والمثل الثاني منهما: تضمَّن تشبيهًا لحالة الصنف الثاني المذبذب، الذي ما زال مترددًا محتارًا بين الإيمان والكفر، وهو إلى الثبات في موقف الكفر أقرب. فهذا لم يطمس الله بصيرته إمهالاً له، وليمنحه آخر نقطة في كأس بصيرته، ولو شاء الله لطمس بصيرته، حكمًا عليه بالجانب الغالب الأرجح من واقعه؛ لكنه - سبحانه - لم يشأ ذلك رحمة به.
وذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك حين زعم أن المثلين مضروبين لليهود، وليس للمنافقين. وهذا، وذاك خلاف للظاهر، الذي يشير بوضوح لا لبس فيه إلى أن الكلام موجه للمنافقين، وأن هؤلاء المنافقين هم صنف واحد، لا صنفان، وفي حقهم يقول الله - تعالى -: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ* يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلآ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ* فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ* وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ* ألآ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ* وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ ألا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ* وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ* اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ* أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ"[البقرة: 8-16].
فقوله - تعالى -في هذه الآيات الكريمة في حق المنافقين، ليس على درجة من التعقيد، أو الغموض، حتى يحتاج إلى نظراتٍ ثاقباتٍ تحلله إلى صنفين من الناس؛ لأنه يتحدث عن طائفة واحدة منهم؛ هي طائفة المنافقين. هذه الطائفة، التي أظهرت الإيمان، وأبطنت الكفر، ضرب الله - تعالى -لها مثلين، في حالتين مختلفتين. ولهذا جاء بـ(أو)، التي يثبت بها أحد الأمرين، للدلالة على أن مثلهم هذا، أو هذا، فقال - تعالى -: "مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا... أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ... "الخ.
وإلى هذا ذهب ابن قيِّم الجَوْزيَّة، فقال في ذلك ما نصُّه: ” أما قوله: "أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ" فإنه - تعالى -، ذكر مَثليْن مضروبيـــن للمنافقين، في حالتين مختلفتين؛ فهم لا يخلون، من إحدى الحالتين. فـ(أو) على بابها، من الدلالة على أحد المعنيين ".
و(الصَيِّب)، في المشهور، هو المطر الشديد، الذي يَصُوب من السماء. أي: ينزل منها بسرعة. وهو مثل للقرآن الكريم، كما أن الذي استوقد نارًا- في التمثيل الأول- مثل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
والمثل الأول يصور أحوال هؤلاء المنافقين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمؤمنين. والمثل الثاني يصَوِّر أحوالهم مع القرآن الكريم، ومواقفهم منه. والأول هو موضوع حديثنا في هذا المقال.
"مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ".
فـهؤلاء المنافقون، فيما عُلِم من أحوالهم، وصفاتهم السابقة: (مَثلٌ)، والذي استوقد نارًا، فيما ذُكر معه من أشياء: (مثلٌ) آخر. وما بين المثلين تشابه، لا تطابق- كما يُقال- ولهذا صحَّ أن يكون كل واحد منهما طرفـًا، في تشبيه واحد، أداته الكاف0 ولو لم يكن في الكلام هذه الكاف، لكان بين المثلين تماثلٌ في تمام الأحوال والصفات؛ لأن التقدير- حينئذ- يكون: مَثلهم مَثلُ الذي استوقد نارًا. ولكن وجود
الكاف حصَّن المعنى من هذا التأويل، الذي ذهب إليه جمهور النحاة والمفسرين.
وننظر فيما بين المثلين من وجه شبه:
فنرى أولاً- في المشبه- وهم هؤلاء المنافقون- كانوا في زمرة الكافرين، ثم إنهم أعلنوا إيمانهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، واتخذوا هذا الإيمان جُنـَّة يتقون بها يد المؤمنين، إذا هي علَت على الكافرين، وأنزلتهم على حكمهم، وذريعة يتوصَّلون بها إلى ما قد يفيءُ الله على المؤمنين من خير! فكان أن فضح الله نفاقهم، وجاءت آياته، تنزع عنهم هذا الثوب، الذي ستروا به هذا النفاق، فأصبحوا عُراة، لا يستطيعون أن يظهروا في الناس؛ إلا كما تظهر الحيَّات برءوسها من وراء أحجارها!
ونرى ثانيًا- في المشبه به- وهو هذا الذي استوقد نارًا- هذا الإنسان، كان واحدًا في جماعة، في ليل شديد الظلمة، فاستوقد نارًا، عله يهتدي بضوئها، ويهدي بها معه جماعته. ولما اجتمع القوم على الضوء، الذي بدَّد ظلام الليل الحالك من حولهم، حجز الله - تعالى -النور، عن طائفة مخصوصة منهم، فلم يرَوا ما حولهم، ولم يعرفوا وجه الطريق الذي يسلكون، فركبتهم الحَيْرة، وقيَّدهم العمى والضلال!
ونقرأ الآية الكريمة: "مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ "، فنجد لمحة، من لمحات الإعجاز البياني، في هذا التخالف بين أجزاء الصورة، في المشبه به؛ حيث كان الظاهر أن يقال: "ذهب الله بنوره، وتُركَ في ظلمات لا يُبصِر). أو يقال: "مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارًا، فلما أضاءت ما حولهم)- كما قرأ بذلك ابن السُّمَيْقع. ولكن جاءت الآية الكريمة على خلاف هذا الظاهر، وتلك القراءة، التي قال فيها الألوسي: ” وهي قراءة مشكلة جدًّا “.
وللنحاة والمفسرين، في تفسير ذلك والتعليل له، أقوالٌ؛ أشهرُها: أن(الذي)- هنا- مفرد في اللفظ، ومعناه على الجمع. فالمعنى: مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارًا. ولذلك قال الله - تعالى -: "ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)؛ فحمل أول الكلام على الواحد، وآخره على الجمع. والتقدير: مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارًا، فلما أضاءت ما حولهم، ذهب الله بنورهم.
وقيل: إنما وُحِّد(الذي) و(استوقد) و(ما حوله)؛ لأن المستوقد كان واحدًا من جماعة، تولَّى الإيقاد لهم؛ فلما ذهب الضوءُ، رجع عليهم جميعًا.. وقيل غير ذلك. ولكن هذا- كما يقول عبد الكريم الخطيب في كتابه: تفسير القرآن للقرآن-” يفسد المعنى؛ حيث يَقضي بهذا الحكم على مستوقد النار، فيذهب بنوره، الذي رفعه لهداية الناس؛ وحيث يقع هذا الحكم على غير المنافقين، من طالبي الهدى عنده.. والصورة، التي رسمتها الآية الكريمة، تأخذ المنافقين وحدهم بجرمهم، فتحرمهم الإفادة من هذا النور، الذي يملأ الوجود من حولهم، ثم لا تحرم المهتدين ما أفادوا من هدى“.
ولو تأملنا الآية، وجدنا أن هذا(الذي استوقد نارًا) كان واحدًا في جماعة معه، استدعى لهم الإيقاد. أي: طلبه، وسعى في تحصيله. فلما أوقِدت له النار، وأضاءت ما حوله، واجتمع الناس على ضوئها، ذهب الله بنور طائفة مخصوصة منهم. كذلك كان شأن المنافقين وحالهم، مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبعوث هدًى ورحمة للعالمين.. كذبٌ ونفاق، وخداعٌ واستهزاء، فكان أن وقعوا في ضلالتهم، التي اشتروها بالهدى، وخبطوا في مستنقع الحيرة، التي أدهشتهم. ولهذا ذمَّهم الله - تعالى -بأنهم دخلوا في الإيمان ثم خرجوا منه بقوله: "إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ"[المنافقون: 1]..
وبذلك يكون الغرض من هذا التمثيل: تشبيه حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحال الذي استوقد نارًا، وتشبيه حال المنافقين معه بحال طائفة مخصوصة، ذهب الله - تعالى -بنورهم. فحذف من المشبه ما أثبت نظيره في المشبه به، وحذف من المشبه به ما أثبت نظيره في المشبه. وهذا من ألطف أنواع البديع، وأبدعها. وقلَّ من تنبَّه له، أو نبَّه عليه، من أهل فنِّ البلاغة- كما قال السيوطي في (الإتقان). وقد ذكره الزركشي في(البرهان)، ولم يسمِّه هذا الاسم، بل سماه: (الحذف المقابلي)، ثم نقل عن الأندلسي قوله في شرح(البديعية): ” من أنواع البديع: (الاحتباك)؛ وهو نوع عزيز، وهو أن يحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني، ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول؛ كقوله - تعالى -: "وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ"[البقرة: 171].
التقدير: ومثل الأنبياء، والكفار كمثل الذي يَنعِق، والذي يُنعَق به. فحذف من الأول (الأنبياء)، لدلالة(الذي ينعق) عليه، ومن الثاني(الذي ينعَق به)، لدلالة (الذين كفروا) عليه “.
وبهذا الفهم لمعنى مثل الذين كفروا، ومثل المنافقين، يكون قوله - تعالى -: "الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا" مثلاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويكون قوله - تعالى -: "ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ" مثلاً للمنافقين، كما ذكرنا.
وتمثيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمستوقد النار، جاء صريحًا، في قوله - عليه الصلاة والسلام -: ” إنما مثلي، ومثل أمتي، كمثل رجل استوقد نارًا، فجعلت الدوابُّ، وهذه الفراش، يقعْن فيها. فأنا آخذٌ بحِجْزكم، وأنتم تُقحَمون فيها “.
وفي رواية أخرى: ” إنما مثلي ومثل الناس، كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله، جعل الفراش، وهذه الدواب، التي تقع في النار، يقعن فيها. فجعل ينزعهن، ويغلبنه، فيقتحمن فيها. فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقحمون فيها “ (صحيح مسـلم: 4/1789، وصحيح البخاري: 5/2379)0
ومع وضوح معنى هذا المثل وإشراقه، وإقامة الدليل عليه فقد ذهب المرحوم الشيخ محمد متولي الشعراوي إلى القول: ” معنى استوقد: طلب أن توقد، وما دام هو الطالب، كان عليه أن يحترم طلبه؛ ولكنه لما نافق، ذهب الله بنوره “0 ثم كرَّر هذا القول بصيغة الجمع، فقال: ” كان المفروض أن يحترموا نتيجة ما طلبوه؛ ولكنهم؛ لفساد في طباعهم، وفساد في أذواقهم، لم يحترموا طلبهم؛ فكان أن ذهب الله بنورهم “.. وعلى هذا الرأي جمهور القدماء، والمعاصرين.
وهذا وهْمٌ منهم جميعًا- رحمهم الله - نشأ من عدم التدبُّر؛ فوقعوا فيما لا ينبغي أن يقعوا فيه.. ألا ترى كيف حكموا بالنفاق، وإذهاب النور، على هذا المستوقد الذي أضاء بناره الوجود؟ وكيف يكون مَن هذا شأنُه منافقـًا، ثم يُؤخَذ بجرم المنافقين؟ !!