الخوف من الزيغ
إن الثبات على الطريق ولزومَ الجادَّة واتباعَ الصراط والحذرَ من اتباع السبل آيةُ رشد المرء، وبرهانُ نضجه، ودليلُ سداد رأيه. وإن أرفعَ مراتب الثبات وأعلى درجاته ثباتُ القلب على الحق، واستقامته على الدين، وسلامته من التقلب. ولذا كانت الخشية من الزيغ، شأنَ أولي الألباب ونهجَ أولي النهى وسبيل الراسخين في العلم، الذين يبتغون إلى ربهم الوسيلة، ويزدلفون إليه، يرجون رحمته ويخافون عذابه. وقد ذكر سبحانه تضرّعَهم وسؤالهم إياه التثبيتَ على الحق والسلامةَ من الزيغ في قوله-عزَّ اسمه-: {هُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ مِنْهُ آيَـٰتٌ مُّحْكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاء ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلراسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَـٰبِ*رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ} [آل عمران:7، 8].
وإنه لحسٌّ مرهَف وضراعة مخبتة، أُلِفَت في هدي خير الورى-صلى الله عليه وسلم-ما يبعث على كمال العبرة، وتمام القدوة، وحسن التأسي، وصدق الاتباع. فهذه أمُّ سلمة رضي الله عنها تحدِّث أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-كان يُكْثِر في دعائه أن يقول: (اللهم مقلبَ القلوب، ثبت قلبي على دينك)، قالت: قلت: يا رسول الله، وإنَّ القلوب لتتقلب؟! قال: (نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا إن قلبه بين إصبعين من أصابع الله، فإن شاء الله-عز وجل-أقامه، وإن شاء الله أزاغه)[1].
وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يكثر أن يقول: (يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)، قال: فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، هل تخاف علينا؟ قال: (نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله، يقلّبها كيف يشاء)[2]. وإذا كان صلوات الله وسلامه عليه قد خشي على هذه الثلة المؤمنة والطليعة الراشدة مع ما بلغت من رسوخ الإيمان وقوة اليقين وصدق العبودية، ومع أن قرنها خير القرون، كما جاء في الحديث المتفق على صحته، فكيف بمن جاء بعدهم من أهل العصور؟! لا سيما من أهل هذا العصر، الذي أطلت فيه الفتن، وتتابعت على المسلمين، فأقبلت رايات الباطل، وخفقت ألوية الضلال مبهرَجة لامعة، وعصفت بالقلوب ريح الشبهات والشهوات، وفُتح على الناس من أبوابهما ما لا منتهى له، وانبعث سيل من المغريات المغوية فيما يُقْرَأ ويُسْمَع ويُرَى، وكل أولئك مما تعظم به الخشية من الزيغ، وتتأكد معه الحاجة إلى تثبيت القلوب، ويستبين به عظم مقام هذا الدعاء النبوي الكريم، وشرفُ موضعه، وشدة الافتقار إلى اللهج به في كل حين.
للشيخ: أسامة بن عبد الله خياط-حفظه الله-