تنزيل الآيات على الواقع المعاصر عند الشيخ ابن عثيمين رحمه الله
الدكتور أحمد بن محمد البريدي*
القرآنُ الكريمُ نزلَ هدايةً للناسِ كما قـال - تعالى -: {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}(البقرة: من الآية185)، وهو آيةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الباقيةُ، فمن تمسّكَ به هُدِيَ، ومَن حادَ عنهُ ضَلَّ سواءَ الصراطِ، وذلكَ مِن نزولهِ إلى قيامِ الساعةِ، فهو صالحٌ لكلِّ زمانٍ ومكان.
وتنْزيلُ آياتهِ وربطها بواقعِ الناسِ وحياتهم ميزةٌ خاصّةٌ لكلِّ مُفسِّرٍ في عصرهِ، ولقد اعتنى الشيخُ ابن عثيمين - رحمه الله - بهذا الجانبِ، واهتمّ بهِ، يظهر هذا للناظرِ في تفسيرهِ، وسأمثّلُ لذلكَ مِن خلالِ النقاطِ التاليةِ:
أولاً: الردُّ على بعض التعبيراتِ الشائعةِ وبيانِ خطئها عند تفسيره لقوله - تعالى -: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} (البقرة: من الآية213)
ذكرَ مِن فوائدها: " أنّ مَن يوصف بالتبشيرِ إنّما هم الرُّسُلُ وأتباعهم؛ وأمّا مَا تَسَمَّى بهِ دُعاة النصرانيةِ بكونهم مُبشِّرينَ فهم بذلكَ كاذبونَ؛ إلاَّ أنْ يُرادَ أنهم مُبشِّرُونَ بالعذابِ الأليمِ، كما قالَ - تعالى -: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}(آل عمران: من الآية21)؛ وأَحَقُّ وَصْفٍ يُوصَفُ بهِ هؤلاءِ الدعاةُ أنْ يُوصَفُوا بالمضَلِّلِينَ، أو المنَصِّرينَ؛ وما نظيُر ذلكَ إلاَّ نظيرُ مَن اغْتَرَّ بتسميةِ النصارى بالمسيحيينَ؛ لأنّ لازمَ ذلكَ أنّكَ أقْرَرْتَ أنهم يتبعونَ المسيحَ، كما إذا قُلْتَ: " فلانٌ تَمِيمِيٌّ "؛ إذاً هو مِن بني تميم؛ والمسيحُ ابن مَريم يتبرأُ مِن دينهم الذي هم عليهِ الآنَ كما قال - تعالى -: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}(المائدة: من الآية116) إلى قولهِ - تعالى -: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}(المائدة: من الآية117) الآيتين؛ ولأنّهم رَدُّوا بشارةَ عِيسَى بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وكَفروا بِهَا؛ فكيفَ تَصِحُّ نِسبَتهم إليهِ؟ والحاصلُ أنّه يَنبغِي للمؤمنِ أنْ يكونَ حَذِرًا يَقِظًا لا يَغْتَرُّ بخداعِ المخادعينَ، فيجعلَ لهم مِن الأسماءِ، والألقابِ ما لا يَستحقُّون ". (1)
مثالٌ آخر: عند تفسيره لقوله - تعالى -: {وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} (البقرة: من الآية221)
ذكرَ مِن فوائدها: " الردُّ على الذينَ قالوا: " إنّ دينَ الإسلامِ دينُ مُساواةٍ "؛ لأنّ التفضيلَ يُنَافِي المساواةَ؛ والعجيبُ أنّه لم يأتِ في الكتابِ، ولا في السُّنَّةِ لفْظةُ "المساواة " مُثبتاً؛ ولا أنّ الله أمَرَ بها؛ ولا رَغَّبَ فيها؛ لأنّكَ إذا قُلْتَ بالمساواةِ استوى الفاسقُ، والعَدْلُ؛ والكافرُ، والمؤمنُ؛ والذكرُ، والأنثى؛ وهذا هو الذي يريدهُ أعداءُ الإسلامِ مِن المسلمينَ؛ لكن جاءَ دينُ الإسلامِ بكلمةٍ هي خيرٌ مِن كلمةِ " المساواة "؛ وليسَ فيها احتمالٌ أبداً، وهي " العَدْل "، كما قالَ الله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}(النحل: من الآية90)؛ وكلمةُ " العَدْلِ " تعني أنْ يُسَوَّى بينَ المتماثلينِ، ويُفَرَّقَ بينَ المفترقينِ؛ لأنّ "العَدْلَ " إعطاءُ كُلِّ شيءٍ ما يستحقهُ؛ والحاصلُ: أنّ كلمةَ " المساواة " أَدْخَلَهَا أعداءُ الإسلامِ على المسلمينَ؛ وأكثرُ المسلمينَ - ولا سِيَّمَا ذَوُو الثقافةِ العامّةِ - ليسَ عندهم تحقيقٌ، ولا تدقيقٌ في الأمورِ، ولا تَمْييزٌ بينَ العباراتِ؛ ولهذا تَجِدُ الواحدَ يَظُنُّ هذهِ الكلمةَ كلمةُ نُور تُحمَل على الرؤوسِ: " إنّ دينَ الإسلامِ دينُ مُساواةٍ "! ونقولُ: لو قُلتم: " الإسلامُ دِينُ العَدْلِ " لكانَ أَوْلَى، وأشدُّ مطابقةً لواقعِ الإسلام ". (2)
كما بيّنَ الشيخُ - رحمه الله - خطأ تقديمِ النساءِ على الرجالِ في الذِّكْرِ كَقولِهم: أيُّهَا السيدات ُوالسادة، وبيانُ أنّ الصوابَ تقديمُ الرجالِ كما قدَّمَهُم الله في كتابهِ أخْذًا مِن قوله {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ}(النساء: من الآية7).
ثانيًا: الردُّ على الدعواتِ المنحرفةِ عند تفسيره لقولـه - تعالى -: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ}(المائدة: من الآية15)
قالَ: " فالذينَ يطنطنون الآيةَ ويريدونَ أنْ يُقرِّبُوا بينَ الأديانِ ويقولونَ إنّ الله سَمَّاهُم أهلَ كتابٍ زَعْمًا مِنهم أو إيهامًا مِنهم أنّ ذلكَ مِن بابِ التكريمِ لهم والرِّضَا بما هم عليهِ: نقولُ: إنّ الله لم يُخاطبهم بذلكَ تكريمًا لهم وكيفَ يكونُ ذلكَ إكرامًا لهم واللهُ يقولُ: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}(المائدة: 60)، لكنْ ناداهم بهـذا الوصفِ إقامةً للحُجَّةِ عليهم، وأنّ تَصرُّفَهُم أبعد ما يكون عن العقلِ؛ لأنّ أهلَ الكتابِ يجبُ أنْ يكونوا أوّلَ عاملٍ بهِ ". (3)
وعند تفسيره لآيةِ الدَّيْنِ، ذكرَ مِن فوائدهـا: " دَحْرُ أولئكَ الذينَ يقولونَ: إنّ الإسلامَ ما هو إلاّ أعمالٌ خاصّةٌ بعبادةِ الله - عز وجل -، وبالأحوالِ الشخصيةِ؛ كالمواريثِ، وما أشبهها؛ وأمّا المعاملاتُ فيجبُ أنْ تكونَ خاضعةً للعصرِ، والحالِ؛ وعلى هذا فينسلخونَ مِن أحكامِ الإسلامِ فيما يتعلقُ بالبيوعِ، والإجاراتِ وغيرها، إلى الأحكامِ الوضعيةِ المبنيةِ على الظلم والجهل ". (4)
وعند تفسيره لقوله - تعالى -: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}(البقرة: من الآية223)
ذكرَ مِن فوائدها: " أنّهُ ينبغي للإنسانِ أنْ يُحاولَ كثرةَ النَّسْلِ؛ لقوله تعالى{حَرْثٌ لَكُمْ}، وإذا كانت حَرْثًا فهل الإنسانُ عندما يَحرثُ أرضًا يُقلِّلُ مِن الزَّرْعِ أو يُكثِرُ مِن الزَّرْع؟
فالجواب: الإنسانُ عندما يَحرثُ أرضًا يُكثِرُ مِن الزرعِ ويُؤيِّدُ هذا قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - [تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الوَلُودَ](5)؛ وأمّا القولُ بتحديدِ النَّسْلِ فهذا لا شكَّ أنّه مِن دَسَائِسِ أعداءِ المسلمين يُريدونَ مِن المسلمينَ ألاَّ يَكْثُرُوا؛ لأنّهم إذا كَثُرُوا أَرْعَبُوهُم، واسْتَغْنَوا بأنفسهم عنهم: حَرَثُوا الأرضَ، وشَغَّلوا التجارةَ، وحصلَ بذلكَ ارتفاعٌ للاقتصادِ، وغير ذلكَ مِن المصالحِ؛ فإذا بَقُوا مُسْتَحْسِرِينَ قَلِيلِينَ صَارُوا أَذِلَّةً، وصَارُوا مُحتاجِينَ لغيرهم في كُلِّ شيءٍ؛ ثم هل الأمرُ بِيَدِ الإنسانِ في بَقاءِ النَّسْلِ الذي حَدَّدَهُ؟! فقـد يَموتُ هؤلاءِ المحدَّدُونَ؛ فلا يبقى للإنسانِ نَسْلٌ ". (6)
ومِمَّا ذكرهُ أيضًا في هذا البابِ:
- الردُّ على القوميّةِ العربية. (7)
- الردُّ على الشُّيُوعِيِّنَ المنكرينَ للخالقِ. (
- تحريمُ الاشتراكيّةِ والدعوةِ إليها، مع بيان خطئها، وبيانُ حكمةِ الله في جَعْلِ الناسِ فقراءَ وأغنياء. (9)
- بُطلان توهّمِ مَن حكَّمَ القوانينَ الوضعيّة وظَنَّ أنّ بها صالح الأمّةِ. (10)
- الردُّ على دُعاةِ تحرير المرأةِ وبيانُ أنّ أساليبهم مُشابهةٌ لأساليبِ اليهودِ والنصارى. (11)
- التحذيرُ مِن النصرانيّةِ ودُعاتها. (12)
- الردُّ على مَن قالَ: إنّ تطبيقَ الحدودِ تشويهٍ للمجتمع. (13)
ثالثًا: الردُّ عى بعض النَّظريَّاتِ الشائعةِ عند تفسيره لقوله - تعالى -: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ? وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ? لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يّـس: 38 - 40)
ذكرَ مِن فوائدها: " الردُّ على قَوْلِ مَن يقولُ: "إنّ الشمسَ ثابتةٌ وأنّها لا تدور " والعجبُ أنهم يقولونَ إنّها ثابتةٌ، وأنّ القمرَ يدورُ حولَ الأرضِ. وهذا غلطٌ؛لأنّ الله ? جعلَ الحكمَ واحدًا، قال تعالى{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} فإذا فسَّرنا السَّبْحَ بالدورانِ وأثبتنا ذلكَ للقمرِ فلْنُثْبِتهُ أيضًا للشمس ". (14)
وعند تفسيره لقوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}(البقرة: من الآية36)
ذكرَ مِن فوائدها: " أنّه لا يُمكن العيشُ إلاّ في الأرضِ لبني آدمَ؛ لقولـهِ - تعالى -: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}؛ ويُؤَيِّدُ هذا قولهُ - تعالى -: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}(الأعراف: من الآية25)؛ وبناءً على ذلكَ نعلمُ أنّ مُحاولةَ الكُفَّارِ أنْ يَعِيشُوا في غير الأرضِ إمّا في بعضِ الكـواكبِ، أو في بعضِ المراكبِ مُحاولةٌ يِائِسةٌ؛ لأنّه لابُدَّ أنْ
يكونَ مُسْتَقَرّهُم الأرض ". (15)
ومِن ذلكَ أيضًا: إثباتُ أنّ الضَّرْبَ مِن وسائلِ التربيةِ، أخْذًا مِن قولـه - تعالى -: {وَاضْرِبُوهُنَّ}(النساء: من الآية34)، والردُّ على أهل التربية المنكرينَ لذلك. (16)
ومِنها: الردُّ على نظريّةِ تطوّر الخلقِ، أخذًا مِن قولهِ تعالى{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} (آل عمران: من الآية34). (17)
ومِنها: الردُّ على الفلاسفة القائلينَ بِقِدَمِ الأفلاكِ أيْ غير مَخلوقةٍ -، أخْذًا مِن الأدلّةِ التي تُثْبِتُ خَلْقَ السموات والأرض. (18)
رابعًا: تَشابُه أهلِ الضلالِ مِن أيّامِ الرُّسُلِ إلى عصرنا في وَصْفِ مُخالفيهم عند تفسيره لقوله - تعالى -: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ}(البقرة: من الآية13)
ذكرَ مِن فوائدها: " إنّ أعداءَ الله يَصِفُونَ أولياءهُ بما يُوجِبُ التنفيرَ عنهم لقولهم: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ}؛ فأعداءُ الله في كُلِّ زمانٍ، وفي كُلِّ مكانٍ يَصِفُونَ أولياءَ الله بما يُوجِبُ التنفيرَ عنهم؛ فالرُّسُلُ وَصَفَهُمْ قَوْمُهُمْ بالجنونِ، والسِّحرِ، والكِهَانَةِ، والشِّعْرِ تنفيراً عنهم، كما قـال - تعالى -: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} (الذاريات: 52) وقال - تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ}(الفرقان: من الآية31) وورثةُ الأنبياءِ مِثْلُهُم يجعلُ الله لهم أعداءً مِن المجرمينَ، ولكن{وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} (الفرقان: من الآية31)؛ فمهما بلغوا مِن الأساليبِ فإنّ الله - تعالى -إذا أرادَ هِدايةَ أحدٍ فلا يمنعهُ إضلالُ هؤلاءِ؛ لأنّ أعداءَ الأنبياءِ يَسلُكـونَ في إبطالِ دعوةِ الأنبياءِ مَسْلَكَيْنِ؛ مَسْلَك الإضلالِ، والدعايةِ الباطلةِ في كُلِّ زمـانٍ ومكـانٍ؛ ثُمَّ مَسْلَك السِّلاحِ؛ أيْ المجابهةِ المسلّحةِ ". (19)
خامسًا: التوقيتُ العالميُّ هو التوقيتُ بالأهلَّةِ، وبيانُ خطأ التوقيتِ الشائعِ اليوم عند تفسيره لقوله - تعالى -: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ}(البقرة: من الآية189)
ذكرَ مِن فوائدها: " أنّ مِيقاتَ الأُمَمِ كُلِّها الميقاتُ الذي وَضَعَهُ الله لهم - وهو الأهلّة -؛ فهو الميقاتُ العالميُّ؛ لقولهِ - تعالى -: {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ}؛ وأمّا مَا حَدَثَ أخيراً من التوقيتِ بالأشْهُرِ الإفرنجيةِ فلا أَصْلَ لـه مِن مَحسوسٍ، ولا مَعقولٍ، ولا مَشروعٍ؛ ولهذا تجدُ بعضَ الشهورِ ثمانيةً وعشرينَ يومًا، وبعضها ثلاثينَ يومًا، وبعضها واحدًا وثلاثينَ يومًا مِن غير أنْ يكونَ سببٌ مَعلومٌ أوجبَ هذا الفرقَ؛ ثم إنّه ليسَ لهذهِ الأشْهُرِ علامةٌ حِسِّيَةٌ يرجعُ الناسُ إليها في تحديدِ أوقاتهم - بخلافِ الأشْهُرِ الهلاليةِ فإنّ لها علامةً حِسِّيَةً يعرفها كُلُّ أَحَد ". (20)
سادسًا: التحذيرُ مِن الغزْوِ الفكريِّ والأخلاقيِّ عند تفسيره لقوله تعالى{وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (البقرة: من الآية217)
ذكرَ مِن فوائدها: " حِرْصُ المشركينَ على ارتدادِ المؤمنينَ بِكُلِّ وسيلةٍ ولو أَدَّى ذلكَ
إلى القتالِ؛ لقوله - تعالى -: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}؛ ولهذا كانَ الغَزْو الفِكْرِيُّ، والغَزْو الأخْلاقِيُّ أعظمَ مِن الغَزْوِ السِّلاحِيِّ؛ لأنّ هذا يدخلُ على الأُمَّةِ مِن حيثُ لا تَشْعُر؛ وأمّا ذاكَ فَصِدَامٌ مُسَلَّحٌ يَنْفِرُ الناسُ مِنهُ بالطبيعةِ؛ فلا يُمَكِّنُونَ أحداً أنْ يُقَاتِلَهُم؛ أمّا هذا فَسِلاحٌ فَتَّاكٌ يَفْتِكُ بالأُمَّةِ مِن حيثُ لا تَشْعُر؛ فانظر كيفَ أفسدَ الغَزْو الفِكْرِيُّ والخُلُقِيُّ على الأمةِ الإسلاميـةِ أمورَ دِينهَا، ودُنيَاهَا؛ ومَن تَأمَّلَ التاريخَ تبينُ لهُ حقيقةُ الحال ". (21)
وعند تفسيره لقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ}(النساء: من الآية71)
قـال َ: " نأخذُ الحذرَ مِن غزو هؤلاءِ لنا سواءٌ كانَ بالسلاحِ، أو كانَ بالفِكْرِ، او كانَ بالخُلُقِ، ومَعلومٌ الآنَ أنّ أعداء َالمسلمينَ يَغزون المسلمينَ بِكُلِّ سلاحٍ، وينظرونَ السلاحَ المناسبَ للأُمّةِ فَيغزُونَها به ِ، إذا كانَ المناسبُ للأُمّةِ أنْ يَغْزُوهَا بالسلاحِ فعلوا وقاتلوا وهاجموا، وإذا كانَ غير مُمكنٍ نظروا هل يغزونا بالأفكارِ المنحرفةِ الإلحاديّةِ، إنْ أمكنَ ذلكَ فعلوا، وإذا لم يمكن بأنْ كانت الأمّةُ على جانبٍ كبيرٍ مِن الوَعْيِ والتوحيدِ والارتباطِ بالله ? قالوا: إذًا نَغزُوا بطريقٍ ثالثٍ: وهو الخُلُقُ، فسلّطُوا عليها كُلَّ ما يُفسدُ أخلاقها مِن المجلاّتِ والإذاعاتِ وغير ذلكَ، ولهذا الآن انظر ماذا فعلوا بالناسِ بواسطةِ المحطّاتِ الأفقيّةِ التي تُلْتَقَطُ عن طريقِ الدُّشُوشِ، ولا شكَّ كما سمعنا أنّ فيها شَرًّا عظيمًا، وهم يجعلونَ فيها أشياءَ مُفيدة؛ لأنّهم يعلمونَ أنّها لو كانت مُفسدةً مائةً في المائةِ ما قَبِلَهَا الناسُ إلاّ مَن أزاغَ الله قلبهُ والعياذُ بالله -، لكن يجعلونَ فيها أشياءَ مُفيدة مِن أجلِ أنْ يضعوا الحبَّ للصيدِ، فهذا غَزْوٌ خُلُقِيٌّ، ورُبّما يكونُ فيهِ غَزْوٌ فِكْرِيٌّ، وأنا أسمعُ أحيانًا إذاعةً صافيةً مِن أحسنِ ما يكون مِن إذاعاتِ العالمِ(22) وتبثُّ التَّنْصِيرَ الدعوة إلى النصرانيّة ". (23)
سابعًا: بيان بعضِ أسبابِ تَخَلُّفِ المسلمينَ وعدم انتصارهم على أعدائهم عند تفسيره لقوله - تعالى -: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ}(البقرة: من الآية61)
ذكرَ مِن فوائدها: " أنّ بني إسرائيلَ لا يقومونَ للمسلمينَ لو حَاربُوهم مِن قِبَلِ الإسلامِ؛ لأنّ ضَرْبَ الذِّلَةِ بسببِ المعصيةِ؛ فإذا حُورِبُوا بالطاعـةِ والإسلامِ فلا شَكَّ أنّه سيكونُ الوَبَالُ عليهم؛ وقد قالَ الله - تعالى -: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ}(الحشر: من الآية14)؛وما يُشَاهـد اليومَ مِن مُقاتلةِ اليهودِ للعَرَبِ فإنما ذلكَ لسببين:
الأول: قِلَّةُ الإخلاصِ لله - تعالى -؛ فإنّ كثيراً مِن الذينَ يُقاتِلُونَ اليهودَ - أو أكثرهم - لا يُقاتِلُونَهم بِاسْمِ الإسلامِ، وأنْ تكونَ كلمةُ الله هي العليا؛وإنّما يُقاتِلُونَهم بِاسْمِ العروبةِ؛ فهو قِتالٌ عَصَبِيٌّ قَبَليٌّ؛ ولذلكَ لم يُفلحِ العَرَبُ في مُواجهةِ اليهودِ.
والسببُ الثاني: كَثْرَةُ المعاصي مِن كَبيرةٍ، وصَغيرةٍ؛ حتّى إنّ بعضها لَيُؤَدِّي إلى الكُفْرِ؛ وقد حَصَلَ للمسلمينَ في أُحُدٍ ما حَصَلَ بمعصيةٍ واحدةٍ مَعْ مَا انْضَمَّ إليها مِن التنازعِ والفشلِ كما قال الله - تعالى -: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} (آل عمران: من الآية152) ". (24)
ومِمّا تقدّمَ يتبينُ حِرْصُ الشيخِ - رحمه الله - على رَبْطِ الآياتِ بواقع الناس، وتنْزيلها عليه وهذه كما أسلفتُ مِن مُمَيِّزاتِ تفسيرهِ التي تَمَيَّزَ بها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حاشية
(1) تفسير سورة البقرة (3 / 32).
(2) تفسير سورة البقرة (3 / 80).
(3) تفسير سورة المائدة صـ (123).
(4) تفسير سورة البقرة (3 / 410). وانظر أيضًا: تفسير سورة الكهف صـ (54).
(5) الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده (3 / 633) برقم (12202)، ورواه أبو داود في كتاب: النكاح / باب: النهي عن تزوّج مَن لم يلد مِن النساء (2/542) برقم (2050)، ورواه النسائي في كتاب: النكاح / باب: كراهية تزوّج العقيم (6 / 65) برقم (3225)، ورواه الحاكم في مستدركه (2 / 176) برقم (2685) وقالَ: " هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يُخرِّجاه بهذه السياقة ". كُلُّهم مِن حديثِ مَعقل بن يسار عدا الإمام أحمد فقد خرَّجه مِن حديث أنس بن مالك ?. والحديث حسَّنهُ الهيثمي. انظر: مجمع الزوائد (4 /258)، وقالَ الألباني: " حسنٌ صحيح " انظر: صحيح سنن أبي داود برقم (1805) وصحيح الجامع برقم (2940).
(6) تفسير سورة البقرة (3 / 88).
(7) انظر: تفسير سورة البقرة (2 / 245) و (1 / 169).
(
انظر: المرجع السابق (1 / 12).
(9) انظر: تفسير سورة النساء صـ (746).
(10) انظر: المرجع السابق صـ (398)، تفسير سورة البقرة (1 / 151).
(11) انظر: تفسير سورة البقرة (2 / 85).
(12) انظر: أحكام من القرآن الكريم صـ (396)، تفسير سورة يس صـ (102).
(13) انظر: تفسير سورة المائدة صـ (225).
(14) تفسير سورة يس صـ (150).
(15) تفسير سورة البقرة (1 / 133).
(16) انظر: تفسير سورة النساء صـ (266).
(17) انظر: تفسير سورة آل عمران صـ (198). وانظر: أحكام من القرآن الكريم صـ (273).
(18) تفسير سورة البقرة (2 / 219).
(19) المرجع السابق (1 / 50). وانظر: تفسير سورة النساء صـ (361)، تفسير سورة يس صـ (172، 245)، تفسير جزء عمّ صـ (107).
(20) تفسير سورة البقرة (2 / 371).
(21) المرجع السابق (3 / 60).
(22) الْحُسْنُ في كلامِ الشيخِ عائدٌ إلى صوتِ الإذاعةِ لا إلى الإذاعةِ نفسها.
(23) تفسير سورة النساء صـ (455). وانظر: تفسير سورة سبأ (الآية 5).
(24) تفسير سورة البقرة (1 / 219). وانظر أيضًا: (1 / 52) و (2 / 231).