من أوجه المناسبة بين سورتي المائدة والأنعام
سورة المائدة سورة مدنية، وسورة الأنعام سورة مكية، وقد يُظن أنه ليس ثمة تناسب بين السورتين الكريمتين، إذ إحداهما مدنية والأخرى مكية، وقد قرر كثير من أهل العلم، أن ثمة فارقًا واضحًا بين موضوعات سور القرآن المكي، وموضوعات سور القرآن المدني.
ومع هذا، فقد ذكر بعض أهل العلم بعض وجوه المناسبات بين السورتين الكريمتين، نحاول في مقالنا هذا أن نستجلي هذه الوجوه، اعتمادًا على ما ذكره أصحاب هذا الشأن، فنقول:
- خُتمت سورة المائدة بإثبات سلطان الله - تعالى -الكامل، وقدرته الشاملة، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء؛ إذ قال - سبحانه -: {لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير} (المائدة: 120) وافتتحت سورة الأنعام ببيان السبب في كمال سلطانه، والمظهر الأعظم لكمال قدرته، وهو خلق السموات والأرض، وخلق الإنسان؛ فإن هذا من أسباب السلطان الكامل على السموات والأرض ومن فيهن، وهو مظهر كامل لكمال قدرته - سبحانه -، وهو قوله - تعالى -: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض} (الأنعام: 1).
- لما ذكر - سبحانه - في آخر المائدة قدرته على سبيل الإجمال، فقال: {لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير} افتتح سورة الأنعام بشرح ذلك الإجمال وتفصيله؛ فبدأ - سبحانه - بذكر أنه خلق السماوات والأرض {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض} ثم فصَّل في هذا الخلق فقال: {وجعل الظلمات والنور} (الأنعام: 1) وهذا بعض ما تضمنه قوله - تعالى -: {وما فيهن} في آخر سورة المائدة.
- ثم ذكر - تعالى -أنه خلق النوع الإنساني، وقضى له أجلاً آخر للبعث، وأنه أنشأ القرون قرناً بعد قرن، فقال: {هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون} (الأنعام: 2) وهذا تفصيل آخر لقدرته - سبحانه -.
- ثم قال - سبحانه -: {قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله} (الأنعام: 12) فأثبت لنفسه - سبحانه - ملك جميع ما في السموات والأرض، وهذا يشمل الحيز المكاني، ثم قال: {وله ما سكن في الليل والنهار} (الأنعام: 13) فأثبت له - تعالى -ملك الأزمنة والأوقات، وهذا يشمل الحيز الزماني.
- ثم ذكر - سبحانه - في سورة الأنعام خلق سائر الحيوان من الدواب والطير، ثم خلق النوم، واليقظة، والموت والحياة، وذكر خلق الشمس والقمر والنجوم، وفلق الإصباح، وفلق الحب والنوى، وإنزال الماء، وإخراج النبات والثمار بأنواعها، وإنشاء جنات معروشات، وغير معروشات، وبيَّن - تعالى -أنه جعل الأنعام حمولة وفرشًا. وكل ذلك تفصيل لملكه - سبحانه -، وبيان لقدرته - تعالى -، التي أجمل القول فيها في سورة المائدة.
- ثم لما كان المقصود من هذه السورة بيان الخلق والملك، فقد أكثر - سبحانه - فيها من ذكر الرب، الذي هو بمعنى المالك والخالق والمنشئ، كما في قوله - سبحانه -: {ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء} (الأنعام: 102) وقوله: {قد جاءكم بصائر من ربكم} (الأنعام: 103) واقتصر فيها على ما يتعلق بذلك من بدء الخلق بكل أنواعه وصفاته.
- فقد جمعت هذه السورة جميع المخلوقات بأسرها، وما يتعلق بها، وما يرجع إليها، وفصلت ما أجمل في قوله - تعالى -: {لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير} (المائدة: 120).
- ثم تضمنت السورة العديد من الوصايا، وهي كلها متعلقة بالمعاش، والقوام الدنيوي، وهذا تفصيل لمقتضيات الخلق.
- وأشارت سورة الأنعام إلى أشراط الساعة والبعث، قال - تعالى -: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك} (الأنعام: 158) وهذا أيضًا تفصيل لما أُجمل في سورة المائدة، في قوله: {لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير} ومشاكلة لما ورد في أواخر سورة المائدة، من قوله - تعالى -: {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم} (المائدة: 109).
- ومن وجوه المناسبة بين السورتين، أنه - سبحانه - لما ذكر في سورة المائدة، قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا} (المائدة: 87) ثم ذكر بعد ذلك، قوله: {ما جعل الله من بحيرة} (المائدة: 103) فأخبر عن الكفار أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله، افتراء على الله، وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئًا مما أحل الله، فيشابهوا بذلك الكفار في صنيعهم، وكان ذكر ذلك على سبيل الإيجاز، نقول: لما ذكر - سبحانه - ذلك في سورة المائدة، ساق في سورة الأنعام تفصيلاً ما حرمه الكفار في صنيعهم؛ فأتى به على الوجه الأبين، والنمط الأكمل، ثم جادلهم فيه، وأقام الدلائل على بطلانه، وعارضهم وناقضهم إلى غير ذلك مما فصلته السورة في هذا الشأن؛ فمن ذلك قوله - تعالى -: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنـزير فإنه رجس أو فسقًا أُهلَّ لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} (الأنعام: 145) وقوله أيضًا: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظُفُر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون} (الأنعام: 146) وقوله كذلك: {وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا} (الأنعام: 139).
- ومن وجوه المناسبات أيضًا بين السورتين، أن سورة المائدة اختتمت بفصل القضاء، قال - تعالى -: {قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} (المائدة: 119) وسورة الأنعام افتتحت بالحمد، قال - تعالى -: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض} وهما متلازمان، كما قال - سبحانه -: {وقُضيَ بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} (الزمر: 75).
- ثم يضاف إلى ما تقدم، أنه لما كان قطب سورة الأنعام دائرًا على إثبات الخالق ودلائل التوحيد، ناسب ذلك ما جاء في سورة المائدة من إبطال ألوهية عيسى - عليه الصلاة والسلام -، وتوبيخ الكفرة على اعتقادهم الفاسد وافترائهم الباطل.
وبما ذكرناه من وجوه، يتضح قوة المناسبة بين السورتين الكريمتين، ويتأكد بذلك البيان أيضًا، أن سور القرآن الكريم يبيِّن بعضها بعضًا، ويفصِّل بعضها ما أُجمل في بعض، وصدق الله القائل: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} (هود: 1).
المختار الاسلامي