إن المتتبع لبعض سور القرآن لا سيما سور الحواميم، يجد أن الله - تعالى -افتتح تلك السور بقوله: "حم، تنزيل من الرحمن الرحيم"؛ كما في سورة فصلت، وبقوله: "حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم"، كما في سورة غافر، وافتتح كذلك سورة الجاثية بقوله: - "حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم".
هذا إن دل على شيء إنما يدل على أن هذا القرآن المنزل على سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - هو متضمن لمعاني هذه الأسماء الحسنى التي اختتمت بها آيات بدايات هذه السور، كما في سورة فصلت بقوله - تعالى -: "حم، تنزيل من الرحمن الرحيم"؛ أي هذا الكتاب هو تنزيل من الله الرحمن الرحيم، الذي هو أرحم بعباده من الأم بولدها بل ومن نفسها.
ومن رحمته بهم إنزال هذا الكتاب الذي فيه كمال الرحمن لمن أخذه بحق وعمل به، هذا ظاهر من خلال أحكامه، أوامره ونواهيه التي شرعها الله رحمة بعباده، والمتتبع لتلك الأحكام يجد ذلك جلياً -ولا يسع المقال تتبع ذلك، ولكن نسأل الله أن يعيننا في مقال آخر على تبيان ذلك-.
وكذلك في سورة غافر قال الله - تعالى -في بدايتها: "حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم"؛ أي أنزل الله هذا الكتاب بعلمه كما قال - تعالى -في سورة النساء: "لكن الله يشهد بما أنزل إليك، أنزله بعلمه، والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً"آية: 166-.
أي متضمناً لعلمه، وهو - جل وعلا - ما شرع أحكامه ولا أنزل كتابه بشريعته إلا متضمنة لكمال علمه وهو يعلم ما يُصلح عباده وما يصلح لهم كما قال - تعالى -: "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" سورة الملك: 14-؛ هو - تعالى -العليم العزيز وشريعته هي سبيل العزة؛ لأنها جاءت من لدن الله العزيز فمن سلك سبيله فقد سلك سبيل العزة في الدنيا والآخرة كما قال - تعالى -: "من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً....." سورة فاطر: 10-.
والذل والصغار لمن خالف أمره وأعرض عن شرعه كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري..." الحديث رواه أحمد.
وكذلك في سورة الجاثية ابتدأها الله - تعالى -بقوله: "حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم" -آية: 1-، أي نزل هذا القرآن من الله العزيز الحكيم فلا يأمر إلا بمقتضى الحكمة والتي هي وضع الأمور في نصابها وفي موضعها الصحيح فجميع التشريعات والأحكام جاءت على وفق الحكمة وإن لم نعلم ما هي الحكمة، ولكن لعلمنا أنها جاءت من لدن عزيز حكيم يكفي المسلم ذلك لأن يستسلم لشرع الله وينقاد له ويشعر بالطمأنينة تجاهها، ولا يسأل ما الحكمة في ذلك؟ ولماذا أمر الله بذلك؟ ولا يفضل قوانين البشر على شرع الله لأنه يؤمن أن هذا القرآن نزل من الله العزيز الحكيم.
كل هذه المعاني الجليلة استنبطناها من أسماء الله الحسنى التي ختم الله بها فواتح تلك السور بعد الإخبار والإعلام بتنزيل القرآن، حتى يبين لعباده أن هذا القرآن العظيم ما نزل إلا بتلك المعاني الجليلة.
- فالمسلم المستسلم لله والمؤمن بربه يعلم يقيناً أن هذا القرآن هو سبيل العزة والتمكين وهو متضمن لكمال علم الله، وأحكامه جاءت بالرحمة للعالمين كما قال - تعالى -عن نبيه: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" سورة الأنبياء: 701-.
وتشريعه جاء بمقتضى الحكمة وبكمال العدل، وهذا لا يزيد المؤمن إلا استسلاماً وانقياداً لأمر الله كما قال - تعالى -واصفاً عباده المؤمنين: "إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله أن يقولوا سمعنا واطعنا" سورة النور:51-.