قال تعالي ( قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي) يوسف108
وقوله تعالى ( ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) النحل 125
ومن جملة هذه الوصايا الرائعة ما يلي :
1) صاحب الإخلاص في دعوتك :
فالواجب على الداعية الجديد فضلا عن غيره أن يستشعر دوما أن الدعوة إلى الله عبادة يتقرب بها إليه , وكل عبادة لا تقبل إلا إذا أخلص صاحبها فيها كما قال الله في الحديث القدسي :" أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه " رواه مسلم .
ومما ينافي إخلاص الداعية أو يعكر عليه صدق نيته :
1- أن يبتغي بدعوته طمعا دنيويا أو رفعة وجاها ً.
2- أن يبتغي بدعوته طلب محمدة الناس ولفت أنظارهم إليه .
3- أن يطلب من وراء بذله الدعوي الرئاسة وتكثير الأتباع بين يديه .
4- أن يبتغي بدعوته إثبات وجوده ومنافسة أقرانه .
والداعية الجديد قد لا يقصد هذه الأمور , لكنه يصاب بها في مواضع ويهمل إصلاح قلبه فيصل إليها ويتدهور أمره .
أما كيف يبتلى بهذه الآفات ؟ فالجواب : أن لذلك صورا عديدة منها :
ذكر عن شاب في تجمع دعوي أنه كان يغار من زميله الداعية , ولأنه يلحظ استجابة الآخرين لهذا الصاحب , صار يجتهد في الدعوة ليثبت للمربين الذين يعرفونهما أنه ذو قدرات مماثلة لزميلة , إضافة إلى إرضاء نفسه وإشباع غروره , وهذه صورة متكررة نعلم منها أن الغيرة من الآخرين قد تفسد نية الداعية وهو لا يدري .
ومن أسباب مداومة استشعار الإخلاص ما يلي :
1- أن تحرص على أن يكون تعلمك لدينك الذي ستدعو إليه خالصا لوجه الله , وقد قال صلى الله عليه وسلم :" من تعلم علما مما يبتغي به وجه الله يريد به عرضا من الدنيا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها من مسيرة كذا وكذا .." رواه الترمذي والحاكم وصححه .
2- استشعار فضل الدعوة إلى الله , فبذلك يرتقي همّ الداعية إلى تحصيل ما هو أكبر وأفضل من ثناء الناس المؤقت .
قال صلى الله عليه وسلم :" من دل على خير فله أجر فاعله " .
وقال صلى الله عليه وسلم :" لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حُمر النعم " .
3- لا يليق بالداعية أن يكون كالشمعة يضيء للآخرين ويحرق نفسه , فإن الناس ينتفعون بعلم الداعية ونصحه ويقبلون قوله وفعله وهم يخلصون لله في ذلك كله فيؤجرون ويتقبل الله منهم صالح أعمالهم وهذا الداعية ينسى الإخلاص ويسعى للمحمدة فيرد عليه عمله ودعوته وتذهب حسناته هذه في مهب الريح .
2) وكن مخلصا لدعوتك :
وهذا يعني بذل النفس والنفيس في سبيلها , وعدم الاكتفاء بالكلام وترديده فإن هذه علامة التناقض وعدم الحرص , ومن ذلك أن تجد :" أننا نظهر الاهتمام في الأمر ونحن في أعماق نفوسنا معرضون عنه كارهون له , ولا يستطيع الأكثرون أن يصلوا إلى إدراك ما هو مستقر في أعماق نفوسنا ولذلك يأتون بالأمور المتناقضة ولا يشعرون " .
ونجاح الداعية لا يكون إلا بإخلاصه لدعوته , ( فإن العامل الأساسي للنجاح ليس هو كثرة علم الداعية ولا قوة بيانه وسحره , ولكن هنالك عاملا قبل كل هذه الأمور : هو الإيمان بالدعوة التي يدعو إليها , والخوف الشديد مما يعتريها والشعور بالأخطاء التي تقع بسبب إهمال الدعوة , إن مثل هذا الإنسان يصبح بالناس ويترك أقوى الآثار ولو كان أبكم ) ..
ولذا يحسن بنا أن نتذكر دائما أنه ( إنما يوصل الداعية إلى غايته : شغفه بدعوته وإيمانه , واقتناعه بها وتفانيه فيها , وانقطاعه إليها بجميع مواهبه وطاقاته ووسائله , وذلك هو الشرط الأساسي والسمة الرئيسية للدعاة ( الناجحين ) , و "والله لا نجاح للدعوة , ولا وصول , إن أعطيناها فضول الأوقات ولم ننس أنفسنا وطعامنا " ويظهر جليا هذا المعنى في سير الأنبياء والمصلحين , فها هو نوح عليه السلام يقول ( رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً ) ويقول ( ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً{8} ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً ) وبقي مخلصا في ذلك السنوات الطوال ( ألف سنة إلا خمسين عاما ) لم ينقطع عن ذلك إلا لحضور منيته عليه صلوات الله وسلامه .
ومن الصور التي يظهر فيها عدم إخلاص الداعية لدعوته :
1- إعطاء الدعوة فضول وقته فحسب .
2- التثاقل عن الأنشطة الدعوية , ولذا تجد الداعية لا يداوم على البذل , بل يعطي تارة ويشح تارة , ويحضر مرة ويتغيب مرات .
3- محاولة الداعية أن يرمي بثقل الواجبات الدعوية على الآخرين وأن يتملص منها قدر الإمكان .
4- التلفيق في إعداد الأنشطة الدعوية , وعدم الاجتهاد في إخراجها بصورة حسنة .
3) لا تنس فضل الدعوة :
فإن مما يعين على مواصلة الطريق , ويشحذ الهمم لدوام التحرك الدعوي , أن يتذكر الداعية فضل الدعوة وأجرها العظيم .
ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أصحابه بهذا الفضل ليشجعهم , ومن ذلك أنه قال يوما لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه –من حديث طويل- قال صلى الله عليه وسلم :" فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حُمر النعم " رواه البخاري ومسلم .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" نضَّر الله تعالى عبدا سمع مقالتي فحفظها , ووعاها وأداها , فرُب حاملِ فقهٍ غيرُ فقيه , ورُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقه منه " رواه أحمد وغيره
ومما يدل على دوام فضل الدعوة وبقاء أجرها للداعية قوله صلى الله عليه وسلم :" من دعا إلى هُدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ... " رواه مسلم بتمامه.
4) دعوتك واجبٌ عليك :
فينبغي على الداعية الجديد أن يعلم أن نشاطه الدعوي ليس نفلاً يتفضلُ به على دينه , بل هو واجب لا تبرأ الذمةُ إلا به , وحقٌ للمسلمين لا يجوزُ التقصير فيه , قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله :" فعند قلة الدعاة , وعند كثرة المنكرات , وعند غلبة الجهل كحالنا اليوم , تكون الدعوة فرض عين على كل واحد بحسب طاقته " .
وقال في موضع آخر :" ونظرا إلى انتشار الدعوة إلى المبادئ الهدامة وإلى الإلحاد , وإنكار رب العباد , وإنكار الرسالات , وإنكار الآخرة وانتشار الدعوة النصرانية في الكثير من البلدان , وغير ذلك من الدعوات المضللة , نظرا إلى هذا فإن الدعوة إلى الله عز وجل اليوم أصبحت فرضا عاما , وواجبا على جميع العلماء " .
وبهذا نعلم أن " كل واحد من الأمة يجب عليه أن يقوم من الدعوة بما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره وهو قادر عليه فعليه أن يقوم به , ولهذا يجب على هذا أن يقوم بما لا يجب على ذاك , وقد تقسطت الدعوة على الأمة بحسب ذلك تارة وبحسب غيره أخرى , فقد يدعو هذا إلى اعتقاد الواجب , وهذا إلى عمل ظاهر واجب , وهذا إلى عمل باطن واجب , فتنوع الدعوة يكون في الوجوب تارة , وفي الوقوع تارة " .
والأدلة على ذلك من نصوص الكتاب والسنة كثيرة , منها :
قوله تعالى ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) آل عمران104
وفي هذه الآية " حمَّل الله هذه الأمة واجب الدّعوة إلى الخير , نظرا إلى أن هذا الدين قد أشتمل على الخير الذي تدركه العقول السليمة .. , وحمّلها واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل جماعات المسلمين الذين عرفوا أوامر الدين وعرفوا حُسنها .. وعرفوا نواهي الدين وعرفوا قُبْحَها .. "
5) لا تنس نفسك من الهُدى :
فإن الداعية في زحمة الهموم الدعوية والمشاغل اليومية قد يهتم بالآخرين لكنه ينسى نفسه , ويغفل عن تربيتها على الخير والهُدى , " وهنا تحدث له آفات لا يشعر بها إلا بعد حين , ومنها خواء النفس وقسوة القلب وفتور الهمة , بل وانحراف النية أحيانا .."
فعليك يا أيها الداعية أن تستشعر أن مهمتك الأولى أن تربح نفسك وتنقذها من الضلال .. وقد ندد الله بمن يسترسل في الغفلة فقال ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) البقرة44
وهذا ما أوصى به علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال :" من نصّب نفسه للناس إماما فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تهذيبه بسيرته قبل تهذيبه بلسانه , ومعلم نفسه ومهذبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومهذبهم " ..
وقال أحد الدعاة :" يجب أن يبقي رجال الصفوة بعض أوقاتهم لمواصلة تربية أنفسهم بالعلم والعبادة , وإلا قست قلوبهم من بعد لذة الابتداء " .
وليعلم الداعية أن زاده الذي يتقوى به على طريق الدعوة , إنما هو بإقامة الفرائض والاستكثار من النوافل , والاشتغال بالأذكار , والمداومة على الاستغفار وكثرة التلاوة القرآنية , والحرص على المناجاة الربانية , وغير ذلك من القربات والطاعات " .
وقرب الداعية من كتاب الله يجب أن يكون متعة لروحه وسكنا لفؤاده وشعاعا لعقله ووقودا لحركته ومرقاة لدرجته " .
6) كـُـــن قدوة حسنة :
وهذا يعني أن يكون الداعية صورة صادقة لكل ما يدعو إليه ويريد غرسه في المدعوين , بل أن يكون فعله وسلوكه قبل قوله وكلامه .
والاقتران بين الداعية والدعوة قائم في أذهان الناس , والداعية نفسه شهادة للدعوة , وهذه الشهادة قد تحمل الناس على قبول الدعوة , وقد تحملهم على ردها ورفضها والداعية عندما يكون بعيدا ً عن الالتزام بواجبات الإسلام وتكاليفه فإنه يكون فتنة للناس يصرفهم بسلوكه عن دين الله ويصير مثله كمل قاطع الطريق بل هو أسوأ .
ومما يرهب من مخالفة القول العمل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه , فيدور فيها كما يدور الحمار في الرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون : يا فلان , الم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فيقول : بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه " .
7) خاطب الناس على قدر عقولهم :
فالواجب على الداعية أن يرعِ جهل الناس واختلاف بيئتهم حتى لا تكون دعوته فيهم فتنة لهم ... قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه :" حدثوا الناس بما يعرفون , ودعوا ما ينكرون , أتحبون أن يكذّب الله ورسوله " رواه البخــــــــــاري .
ومن صور عدم مراعاة ما يفهمه الناس ما يلي :-
1- أن يطرح الداعية الخلافات الفقهية بتوسع بحيث لا يفقه الناس الراجح من المرجوح فيختلط عليهم الأمر .
2- أن يتكلم الداعية في مسائل دقيقة مثل القضاء والقدر مما يسبب للسامعين إشكالات هم في غنى عنها .
إنما أنت مُذكر :
وجه الله تعالى رسوله محمدا ً صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى عندما أمره بالدعوة والتبليغ ولم يطالبه بالنتيجة , فقال ( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ) الشورى48
فالمطلوب من الداعية أن يبذل قصارى جهده , وأن يستخدم أحسن ما يستطيع من الأساليب ووسائل الدعوة , وأما استجابة المدعوين وقبولهم للحق وتركهم للمنكر فكل ذلك إلى الله يهدي من يشاء بفضله ويضل من يشاء بعدله , ومن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما ربك بظلاّم للعبيد .
ومن فوائد استشعار الداعية لذلك أن لا يصاب بالإحباط عند إعراض المدعوين عنه , وفيه حفظ لمشاعره وصون لنفسه , ومن ذلك قول الله لنبيه ( فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) فاطر8
9) لا دعوة إلا بعلم :
فعلى الداعية أن يعتقد أن لا دعوة بلا علم , والله تبارك وتعالى قال ( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) الإسراء36
فلا يجوز لأيٍّ كان أن يقوم , بما ليس مؤهلا ً له , لئلا يفتي بغير علم أو يدعو بغي الأسلوب الحكيم , فيكون في الدين محرما ً , أو من الإسلام منفرا , ثم إن الدعوة على الله على غير علم خلاف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم , ومن تبعه .. والله أمر نبيه محمدا ً صلى الله عليه وسلم فقال ( قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) يوسف108
ولذا , دعوتك لا بد أن ترتكز على معرفة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لأن كل علم يتلقى عن سواهما فإنه يجب أن يعرض عليهما أولا ً وبعد عرضه فإما أن يكون موافقا ً أو مخالفا ً , فإن كان موافقا ً قـُـــبل , وإن كان مخالفا ً وجب رده على قائله كائنا ما كان .