أحمد محمد الشرقاوي أستاذ الدراسات الإسلامية المشارك بجامعة الأزهر - وكلية التربية عنيزة
لم تكنْ هذه المرأةُ التي ترفُلُ في النعيمِ، وتتهادَى بين أروقةِ قصرِهَا كالنسيم، لم تكن تعلمُ أنها على موعدٍ مع مفاجأةٍ عجيبةٍ، وهديَّةٍ طريفةٍ غريبةٍ، لم تُرسِل بها مَلِكَةٌ من الممالكِ البعيدةِ أو القريبة، إنما ساقتها الأقدارُ إليها:
ولم تكن هذه الهديةُ عِقدًا ثمينًا أو رداءً فاخرا يليق بملكةٍ أو عطرًا فوَّاحًا تسكبُهُ بيدها الناعمةُ المخضَّبةُ على ثوبِهِا الأنيق، أو تمسحُ به جبينَها الذي يتلألأ كالبدرِ المنيرِ، ويفيضُ بالبشر والحنان، مع أنها امرأةُ مَن تجرَّد مِن كلِّ مشاعرِ الرحمةِ ومعانِي الإشفاقِ! امرأةُ من تخضبت يداهُ بدماءِ الأبرياءِ من بني إسرائيلِ! فقد استحيا نساءَهم للمذلة والهوان والشقاء والحرمان، وذبَّح أبناءهم حمايةً لعرشه وسلطانه، بعد أن رأى في المنام أن هلاكَه على يد رجلٍ من بني إسرائيل؛ فابتدع نهجا شيطانياً، وفرض سياسةً عجيبةً ورهيبةً، تلك السياسةُ التي ينتهجها في عصرنا وكلاءُ إبليس من شياطين الإنسِ، لا لمواجهة التطرف كما يدَّعون، ولا للتصدي للإرهاب كما يُروِّجون، ولكن لمحاصرة الصحوة الإسلامية والسعي إلى إخماد جذوتِها ووأدِ نبتَتِها، إنها سياسةُ تجفيف المنابعِ )يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ( (سورة الصف).
ابتدع فرعونُ هذا المسلكَ الشيطانيَّ، وارتكبَ جرائمَهُ البشعةَ حين أمر زبانيتَه بالتربصِ لكلِّ ذاتِ حملٍ، فلا تضعُ حملَها إلا والسِّكينُ الحادُّ في استقبالِ ولدِها، يحتفي بقدومِهِ ويُرحِّبُ بانتقاله من ظلماتِ الرَّحِمِ إلى ظلماتِ هذه الأرضِ التي ضاقتْ بما رَحُبَتْ، فلا يبقى من ذِكِرِهِ لتلك الأمِّ الثكلى إلا تلك الصرخةُ الأخيرةُ التي ودَّع بها دنيا الظلم، وكأنه يُعربُ بتلك الصرخةِ عن احتجاجِه ومعارضته لتلك السياسةِ الغاشمةِ والقوانين الجائرةِ التي لا تسعى إلا لحمايةِ الكرسيِّ مهما كان الثمنُ فادحًا، ويندِّدُ بعهدِ الظلمِ وعصر الاستبداد الذي أطلَّ عليه تلك الإطلالةَ السريعةَ، ويُعبِّرُ عن رثائه وتعاطفه، ويعلنُ تضامنَهُ مع أولئك المستضعفين من الأغلبيةِ الكادحةِ المقهورة، وأخيرا يودِّعُ بهذه الصرخةِ تلك الدنيا التي لا مكان فيها للعدالةِ والحريةِ ولا للطفولةِ البريئةِ، وما الشعاراتُ التي يطلِقُها سدنةُ الظلمِ وحماةُ الطغيان إلا بريقًا خادعًا وزخرفًا باطلا، قال تعالى )إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ( (سورة القصص 4).
يصرخ الوليدُ صرختَهُ الأخيرةَ في وجهِ هذا العالِمِ الحيرانِ الذي ما كاد يستنشقُ هواءه حتى غادره إلى العالَم الآخِرِ، يصرخ معربا عن فزعه من صروف الحياة وتقلباتِها:
لِمَا تُؤْذِنُ الدُّنْيَا بِهِ مِنْ صُرُوفِهَا ... يَكُونُ بُكَاءُ الطَفْلِ سَاعَةَ يُولَدُ وإلاَّ فما يُبكِيه منها وإنها ... لأفسَحُ ممّا كان فيه وأَرْغَدُ إذا أبصر الدنيا استهلَّ كأنهُ ... بما سوفَ يَلْقَى من رداها يُهَدَّدُ
ولولا أن شفرةَ الطغاةِ عجَّلت بهِ وأخمدت روحه لحوسب في محاكم الطغاة عما وراء هذه الصرخة وماذا كان يعني بها؟ وماذا كان يقصد من ورائها! ومن الذي حرَّضه عليها؟ لَسُئِلَ عن ذلك كلِّه مِن قِبَلِ جندِ فرعون الذين يحاسبون الناس على نواياهم ويعدُّون عليهم أنفاسَهم.
ولكن ماذا ينقصُ صاحبةَ القصر، الرافلةَ في حلل النعيم، الآمرةَ المطاعةَ الفاتنةَ المدللةَ أيُّ نقصٍ وأيُّ قصورٍ يمكنَ أن يجبرَهُ هذا الصندوقُ الخشبيُّ! ما عسى تلك الهديةُ المجهولةُ الهويةُ أن تضيف لامرأةٍ تتيهِ بزينتِها، وتَدِلُّ بسلطان جمالها فيلين لها ذلك الحجرُ الصلدُ - أعني قلب فرعون وهو واللهِ أشد قسوةً من الحجارةِ الصمَّاء -.
إن الإجابة عن هذا التساؤل تكمنُ في تلك الطريقةِ العجيبة التي وصلت بها أجملُ هديةٍ يمكنُ أن تبتهجَ لها سيدةُ القصرِ وتقَرَّ بها عينًا - لَتَنُمُّ عما يطويه هذا الصندوقُ من أسرار وما تطويه الأيام القادمة من أقدار.
دعُونا نعودُ إلى تلك الهدية الغالية التي استقبلتها أيادٍ حانيةٍ وحملتها إلى سيدة القصر لتفتحها بنفسها، فما إن فتحتها حتى انطلق منها ذلك النورُ ليضيءَ ما حوله نورٌ يَشِعُّ من وجه ذلك الطفلُ الذي أحبته من أول نظرةٍ وملأ قلبَها أُنسًا، وابتهجتْ لمُحَياَّهُ، قال تعالى لموسى عليه السلام )وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) (. (طه 37-39 )
أمَّا عنْ فرعونَ فقد فَزِعَ من ذلك الصغيرِ فزعًا شديدًا وأمر بقتلِهِ في الحالِ دون محاكمةٍ لتلك البراءةِ التي شقَّت طريقَها لقلبِ امرأتِه! لكنَّ الله تعالى حماهُ بسلاحٍ خفِيٍّ يسرِي في القلوبِ وسلطانٍ قاهرٍ أقوى من أيِّ سلطانٍ، إنه سلاحُ الحبِّ وسلطانِه فمحبَّةُ آسيةَ له دفعتها إلى التدخل الحاسم والإصرار الجازمِ بإجارةِ هذا الصغيرِ وتخليصِهِ من أيدي الطغاةِِ، ومحبةِ فرعون لها هي التي شفعت لهذا الصغيرِ، قال تعالى )وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي( (طه 39).
ولقد تحقق لها ما أمَّلته في هذا الطفلِ الذي قَدَّرَ اللهُ تعالى لها أن تكون سببا في بقائه حيا فنفعها اللهُ به أيَّما نفعٍ، وأيُّ نفعٍ أكبر وأيُّ هدية أغلى من الهداية إلى الحقِّ وإلى طريقٍ مستقيمٍ.
سجَّل لنا القرآنُ الكريمُ الأحداثَ الحاسمة في حياةِ آسيةَ رضي الله عنها: لحظةَ استقبالِهَا لنبيِّ الله موسى وترحيبِها به في قصرها ليعيش في كنفها، وحرصها على رعايته باستئجار من ترضعُه حتى عاد إلى أحضان أمِّه الأولَى، قال تعالى )وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) ) .
وفي سورة طه يقول جلَّ وعلا: )وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي( (طه 39)
أليس من العجيبِ أن يُربَّى في بيتِ طالبِهِ؟ وأن تكون الظئرُ - أي المرضعِة المُستأجرة - هي الأمُّ الحقيقيةُ، ترضعُ ولدَها وتأخذُ الأجرَ على ذلك؟ إنها أقدارُ اللهِ!
وهكذا كان لهذه الصِّدِيقَةِ دورٌ مهمٌّ في حياة موسى عليه السلام فلقد ربَّته وغذَّته وأحاطته برعايتها وَشِمَلَتْهُ بعطفِهَا وحنانِها..
ثم يطوي السياقُ ذكرَها لينقل لنا مرحلةً أخرى في حياةِ هذه المرأةِ ويضربَ بها المثلَ في الصلاح والتُّقى والبراءة من الظلمِ وأهلِهِ، والنفورِ من الطغاة، والرغبة الصادقة في هجرِ هذه الحياةِ المتْرَفةِ، حياةِ القصورِ الحافلةِ بكلِّ مباهجِ الدُّنيا وزخارفِ الحياةِ، ترغبُ في التخلِّي والتنازُلِ عنْ تلك الأُبَّهَةِ، قال تعالى في سورة التحريم: )وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) (.
ضرب الله بها المثل للمرأة الصالحة، الصابرة، الصامدة الثابتة على الحق رغم فساد البيئة من حولها ورغم ما حولها من الإغراءات والمساومات؛ فهي زوجة فرعون الذي اغترَّ بسعة ملكه وقوة جنده، وهي لم تغتر بكونها ملكة، ولم يصرفها ذلك عن الإيمان بالله عز وجل حين رأت الآيات البينات، فآمنت بالله عز وجل وصدَّقت برسالة موسى عليه السلام، وتبرأت من فرعون وعمله، وسألت المولى عز وجل أن يبني لها بيتا في مستقر رحمته، ويعوضَها عن هذا النعيم الذي ضحَّت به بالنعيم الأبدي والسعادة الحقيقية والمُلك الحقيقي والأنسِ الحقيقيِّ في دار الخلود ) إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ (.. لقد عبرت الآيةُ الكريمة عن معاناتها ومجاهدتها وصمودها في وجه الطغيان، وصبرها الذي امتدَّ حتى آخر اللحظاتِ في عُمُرِهَا المديدِ لتتوج مسيرتها المباركة بهذا الدعاءِ المستجاب:
)رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّة (فطلبتِ الجارَ قبل الدارِ، وهل هناك أكرمُ ولا أعظمُ من جوار المليك المقتدر مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟ مصداقا لقوله تعالى )إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) ((سورة القمر).
وقد قيل:
إني لأحْسِدُ جارَكُمْ لجوارِكُمْ *** طوبَى لمن أَضْحَى لدَارِكَ جَارًا يا ليتَ جارَكَ باعَنِي من دارِهِ *** شبرًا لأُعطِيه بشبرٍ دارًا
قال الإمام القرطبي في تفسيره: "وكانت آسية قد آمنت بموسى، قال أبو العالية: اطَّلَعَ فرعونُ على إيمانِ امرأتِهِ، فَخَرَجَ على الملأ فقال لهم: ما تعلمون من آسية بنت مزاحم؟ فأثنوا عليها خيرا، فقال لهم إنها تعبدُ ربا غيري، فقالوا له اقتلها، فأوتد لها أوتادا وشد يديها ورجليها فقالت: )رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ ( ووافق ذلك حضور فرعون، فضحكت حين رأت بيتها في الجنة، فقال فرعون: ألا تعجبون من جنونها؟! إنا نعذبها وهي تضحك؛ فقبضت روحها.
وقيل سمّر يديها ورجليها في الشمس ووضع على ظهرها رحى، فأطلعها الله حتى رأت مكانها في الجنة، قيل إنه من دُرَّةٍ".
وأخرج النسائي بإسناد صحيح، والحاكم من حديث ابن عباس مرفوعا "أفضلُ نساءِ أهلِ الجنةِ خديجةُ وفاطمةُ ومريمُ وآسيةُ".
وأخرج الترمذي والحاكم عن أَنَسٍ رضي الله عنه أَنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ: مَرْيَمُ ابنةُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحمّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ".
وعن أبي مُوسَى الأشعري رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إلاّ مَرْيَمُ ابنةُ عِمْرَانَ وآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وفَضْلُ عَائِشَةَ على النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثّرِيدِ على سَائِرِ الطعَامِ".
فالكمالُ ليس حكراً على الرجال وحدهم، وإنما للنساء حظُّهُنَّ من هذه الرتبة العالية، وميدان التنافس في الخيرات والتسابق إلى نيل أعلى الدرجات مفتوحٌ أمام الجميع، فما على المرأة إلا أن تجدَّ وتجتهدَ وتجعلَ قدوتَهَا آسيةَ ومريمَ وخديجةَ وفاطمةَ وعائشةَ وغيرهُنَّ من السابقاتِ الفُضْلياتِ فضلا عن الاقتداء بالنبيينَ والصالحين.
فلو كانَ النساءُ كمن ذكرنا *** لَفُضِّلَتِ النساءُ على رجال.
تلك هي قصةُ الصِّديقةِ الشهيدةِ: آسيةَ بنتِ مزاحم، امرأةٌ في مرتبةِ الكمالِ ونموذجٌ يُحتذى للمرأة المؤمنة الصابرة..
هي قدوةٌ للمؤمنين وأُسوةٌ *** يترسَّمُ القمرُ المنيرُ خُطَاهَا
ماشاء الله ،، فعلا هى قدوة و مثل للنساء المؤمنات الصابرات و التى واجهن عدوا من أشرس الأعداء على الارض ألا و هو الطاغية فرعون قبحه الله و جازاه على ظلمه البين فى حق البشر.
جزاكى الله خيرا اختى (طالبة الفردوس) استمتعت جدا الموضوع