[حـبـه وحنانه تجاه فاطمة رضي الله عنها [/
ليس في الإسلام تفاضل بين الذكر والأنثى، وهذا هو ما أظهره الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، ففاطمة هذه كانت ابنته وأم أهل البيت حتى يوم القيامة وهي والدتنا، كانت فاطمة عندما تقبل على رسول الله صلى الله عليه و سلم وتزوره يقوم لها ويأخذ بيدها ويجلسها بجانبه ويسأل عنها وعن أحوالها ويظهر حبه لها، وعندما تقوم يقوم معها ويودعها بكل لطف.[]11]
رغب علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرة في الزواج من بنت أبي جهل، صحيح أن هذه المرأة كانت قد دخلت الإسلام مثل أخيها عكرمة فالتحقت بقافلة النور؛ ولكن هذا الزواج كان من الممكن أن يضايق فاطمة رضي الله عنها، ويجوز أن عليا رضي الله عنه لم يخطر على باله قط أن فاطمة يمكن أن تستاء من مثل هذا الزواج، ولكن عندما أتت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تخبره بالأمر وتظهر حزنها حتى همه أمرها صعد المنبر وقال: «إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم عليَّ بن أبي طالب، فلا آذن لهم ثم لا آذن لهم ثم لا آذن لهم، إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها.» .[]12]وكان علي رضي الله عنه من بين المستمعين فتراجع عن نيته تلك وعاد إلى فاطمة رضي الله عنها.[]13]
ولا شك أن عليا رضي الله عنه كان يعز بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم معزة كبيرة، وكانت فاطمة رضي الله عنها تعرف هذا جيدا لذا، كانت تحبه أكثر من نفسها، والحقيقة أن هذه المرأة الرقيقة كانت تبدو وكأن وظيفتها في الحياة هي أن تكون بذرة لكل الأولياء والأصفياء، فكان جل اهتمامها منصبا على والدها وعلى دعوته، وعندما أخبرها والدها -وهو في أواخر أيام حياته- بأنه سيتوفى سبحت في بحر من الدموع، ولكن عندما أخبرها بأنها ستكون أول من يلتحق به غمرها الفرح والحبور.[]14]
أجل، لقد كان والدها يحبها كثيرا وكانت بدورها تبادله الحب العميق. ولكن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان عندما يحبها يعرف كيف يحفظ التوازن ويعدُّها لكي يوصلها إلى العالم الذي يجب أن ترتفع الأرواح وتسمو إليه، ذلك لأن الرفقة الأبدية لا تكون إلا هناك، ولم يترافق رسول الله صلى الله عليه و سلم وابنته في الحياة سوى خمسة وعشرين عاما، إذ توفيت فاطمة رضي الله عنها بعد ستة أشهر فقط من وفاة والدها، وكان عمرها آنذاك خمسة وعشرين عاما فقط.[]15]
[]4. تـهـيـئـة أولاده للحياة الأبدية]
كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يطلب الحياة الأبدية، أي يطلب ما تطلبه الفطرة التي أودعها الله في الناس جميعا... أجل، إن الإنسان للخلود، وليس في الإمكان إشباع هذا الإنسان إلا بالحياة الخالدة، وصاحب هذه الحياة الخالدة لا يطلب شيئا غيرها، وسواء أشعر بذلك أم لم يشعر فإنه لا يطلب غيرها ولا يرغب في سواها، ومهما أعطيت هذا الإنسان فلن تستطيع إشباعه إلا عندما تعطيه الحياة الخالدة... ذلك لأن للإنسان آمالا لا نهاية لها ورغبات لا تحد ولا تحصى، لذا فلن تستطيع إشباع هذا الإنسان مهما أعطيته، وهذا هو السبب في أن أساس رسالات جميع الأنبياء والمرسلين قائم على هذا النظام ذي البعد الأخروي، وعلى هذا الاعتبار فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم بينما كان يحمل لهم باقات السكينة والطمأنينة فإنه لم يكن ليهمل أبدا تهيئتهم للسعادة الأبدية والطمأنينة الأبدية، ويمكن رؤية هذا بكل وضوح في الحادثة التالية:
جاءت فاطمة رضي الله عنها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي عنقها سلسلة من ذهب فقال لها: «يا فاطمة! أيغُرُّكِ أن يقول الناس ابنة رسول الله وفي يدها سلسلة من نار.» ثم خرج ولم يقعد، أجل.. فمن جهة كان يعزها، ومن جهة أخرى كان يعدها للحياة الأخروية الخالدة ويوجهها نحو الله وتكملة الحادثة هي: فأرسلت فاطمة بالسلسلة إلى السوق فباعتها واشترت بثمنها غلاما فأعتقته، فحُدِّث بذلك فقال: «الحمد لله الذي أنجى فاطمة من النار.»[]16]
أجل.. ليس من السهل أبدا أن تكون أما للأولياء وللأصفياء وللأبرار وللمقربين، لذا.. فقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أكثر حساسية في هذا الخصوص تجاه بيته وأكثر حزما.
فبتصرفه هذا كان -بجانب رأفته بهم وحنانه عليهم- يريد أن يوجه أنظارهم إلى عالم الآخرة، ويسد أمامهم جميع أبواب ونوافذ الشر أو الإثم أو السوء مهما صغر؛ لكي يقصروا همهم على الآخرة ولسان حاله يقول لهم: يجب أن يكون الله غايتكم، إذ سيظهر من أمته من يقول بقول الشاعر:
“هذه الجنة التي يذكرونها
قصور عدة.. وبضعة حوريات
أعطها لمن يريدونها
أما أنا فأنت مُنايَ.. أنت”
ويقضون أعمارهم كلها تحت ألوان وفي ظلال هذه الحياة الأخروية. لذا، كان الرسول صلى الله عليه و سلم يبعد كل من يحبه -نتيجة طبيعية لهذا الحب- من قاذورات الدنيا ويطهرهم منها، ويحوّل نظرهم واهتمامهم إلى العوالم العلوية ويهيئهم لرفقته هناك «لأن المرء مع من أحب.»[]17]
فإذا كنت تحب محمدا صلى الله عليه و سلم فستسلك طريقه، وإذا سلكت طريقه كنت معه في الآخرة، وهكذا فالرسول صلى الله عليه و سلم بجانب حبه لهم كان يهيئهم لرفقته هناك، أجل.. هناك حب، وهناك رأفة ولكن لا محل لأي تراخ في أي أمر من أمور الآخرة... وهذا هو الصراط المستقيم... الصراط الوسط، أفضل وأعدل طريق... طريق على رأسه رسول الله صلى الله عليه و سلم.
وجانب آخر من جوانب نظام تربيته يعرضه علينا الإمام البخاري ومسلم رضي الله عنه وذلك رواية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن فاطمة رضي الله عنها شكت ما تلقى من أثر الرحى فأتى النبيَّ صلى الله عليه و سلم سَبْيٌ فانطلقت فلم تجده، فوجدت عائشةَ فأخبرتها فلما جاء النبي صلى الله عليه و سلم أخبرته عائشة بمجيئ فاطمة فجاء النبي صلى الله عليه و سلم إلينا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبتُ لأقوم فقال: «على مكانكما» فقعد بيننا حتى وجدتُ برد قدميه على صدري وقال: «ألا أُعلِّمكما خيرا مما سألتماني: إذا أخذتما مضاجعكما تُكَبِّرا أربعا وثلاثين وتُسَبِّحا ثلاثا وثلاثين وتحمدا ثلاثا وثلاثين فهو خير لكما من خادم.»[]18]
أي أنني أوجه نظركِ إلى العالم الأخروي، فلكي تصلي وتكوني معي في ذلك العالم أمامك طريقان: الأول هو عدم التقصير في أداء وظيفة العبودية تجاه ربك، والثاني القيام بإيفاء وظيفتك تجاه زوجك، فلو قام الخادم بإيفاء بعض الخدمات لزوجك من الخدمات التي كان من المفروض عليك أداؤها فذلك يعني أن هناك نقصا ما عندك، علما بأن عليك أن تكوني ذات جناحين، لذا.. عليك أن تُفَتشي عما يجعل الإنسان عبدا كاملا لله، وكيف يكون إنسانا كاملا يؤدي كل وظائفه دون قصور.
كوني أولا أمة []19] كاملة لله وأدي كل وظائف العبودية تجاهه، ثم كوني إنسانة كاملة بإيفائك جميع وظائفك تجاه زوجك عليّ الذي يحمل في صلبه كل المقربين من أهل الله حتى يوم القيامة.. اعملي هذا لكي تكوني في الجنة التي هي مكان كل الأخيار.
وفي الحقيقة فإن الله تعالى فعل الشيء نفسه بالنسبة لرسول صلى الله عليه و سلم ورباه على هذا النحو، إذ مات والده قبل أن يأتي -صلى الله عليه و سلم- إلى الدنيا، وعندما فتح بصره على العالم لم يجد أبا يستند إليه ويستمد المعونة منه، وعندما بلغ السادسة من عمره فقد السند الآخر له، وفتح أمامه منذ بداية حياته الطرق المؤدية إلى نور التوحيد وإلى سر الأحدية.
صحيح أن هناك فترة حماية عبد المطلب له، إلا أن هذه لم تكن سوى ستار العزة والعظمة الإلهية []20] من جهة وشرف للحامي، ولكن هذه الحماية لم تكن تعني من ناحية الأسباب شيئا يذكر، لأن الحماية الظاهرية لأبي طالب -فيما بعد- لم تكن تتجاوز حماية الشخص لابن أخيه والوصاية عليه []21] هكذا تعامل الله تعالى معه، إذ سحب جميع الأسباب لكي يوجهه إليه وحده ولكي يظهر عنده سر الآية الكريمة {ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير} (الممتحنة: 4)، فعليه أن يثق بالله ويعتمد عليه.
كانت فاطمة رضي الله عنها ابنته، لذا كان عليه أن ينقل لابنته التربية التي تلقاها من الحق تعالى وأن يوجه نظرها إلى الله وحده وإلى الحياة الأخروية.
[]5. الـجـو العام للتربية في بيته الـكريم
كان الطابع العام الذي يسري في جو بيته الكريم هو التقوى والخشية، فهذا الجو كان يسري في كل حركة وسكنة فيه، فمن استطاع مشاهدة نظرات رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى فيها غبطة الوصول إلى الجنة وخشية الوقوع في النار، ومن رآه في صلاته رآه يرتجف أحيانا إلى الأمام وأحيانا إلى الخلف مهتزا من خشية الله أو متولها بالشوق إليه.. كانت هذه هي المناظر المشاهدة من حياة هذا البيت؛ فمن رآه تذكر الله تعالى، ينقل النسائي الحديث التالي عن مُطَرِّف عن أبيه قال: “أتيت النبي وهو يصلي ولجوفه أَزِيز كأزيز المِرْجَل”، يعني يبكي.[]22]
كان –صلى الله عليه وسلم- دائم البكاء في الصلاة متجها بأعماق قلبه إلى الله، وكم من مرة افتقدته أمنا عائشة رضي الله عنها فوجدته وهو ساجد يسبح الله تعالى في خشوع،[]23] ومن البديهي أن حاله هذه كانت تؤثّر على أهل بيته تأثيرا إيجابيا وقويا من الناحية التربوية، فقد سرى هذا الخشوع والتقوى والخوف من الله إلى نسائه وأولاده، ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يعيش ما يقوله ويقول ما يعيشه، وليس هناك أحدا استطاع أن يؤثر بسلوكه المطابق لفكره مثلما أثر الرسول صلى الله عليه و سلم في بيته، ولو جمع كل علماء النفس وعلماء التربية كل معلوماتهم من جميع النظم التربوية واستخدموها بأجمعها في تعبئة عامة لما استطاعوا أن يقتربوا في تأثيرهم إلى مستوى التأثير الذي أحدثه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في بيته.
أجل.. لقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعبر بتصرفاته وسلوكه عما يريد أن يبلغه للناس ثم يترجم تصرفاته وسلوكه إلى الناس ويبلغها ويفهمها لهم... يريهم كيف تكون الخشية من الله وكيف تؤدى السجدة بكل خشوع وخضوع، وكيف يكون الركوع، وكيف يكون الجلوس للتحيات، وكيف يبتهل إلى الله في ظلمة الليل، كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يفعل هذا في بيته وعندما يكون بين أصحابه يرشدهم كيف يتصرفون وكيف يربون أطفالهم وكيف يكونون مرآة للحق وللحقيقة في كل أمر، فتجد أقواله صدى حسنا في بيته وبين أصحابه وتدخل إلى قلوبهم وتتشربها نفوسهم.
لقد كان صلى الله عليه وسلم -قبل كل شيء- أبا وجدا لا نظير ولا مثيل له، وقد يبدو لنا هذا أمرا بسيطا من الناحية الاجتماعية، إلا أنه في الحقيقة من أصعب العقبات التي يجب على الإنسان تخطيها، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمام صفوف الأُول من الذين تخطوا هذه العقبات بنجاح، فأصبح أفضل أب وأفضل جد، ثم إنه ربى أولادا وأحفادا جاء من صلبهم معظم رجال السلسلة الذهبية في التأريخ الإسلامي، من الذين كانوا شموسا وأقمارا ونجوما هادية، وهذا الأمر دليل آخر من دلائل نبوته صلى الله عليه و سلم، إذ مهما كان الإنسان ذكيا وعبقريا فليس باستطاعته أن يكون مربيا بهذا المستوى الرفيع.
* عن كتاب: النور الخالد محمد مفخرة الإنسانية