يحب الهداية ولكن نفسه تغلبه
سؤال:
أريد الهداية وطريق الصلاح ولا أعرف . أحاول ولا أستطيع . كلما أحاول نفسي الأمارة بالسوء تغلبني ، والشيطان يُذَلِّلُ لِيَ المعصية . ماذا أفعل ؟
الجواب:
الحمد لله
أصدقك القول – أخي السائل – أنني أحسست بالمشاعر التي يكنها قلبك من خلال كلماتك المعدودة في السؤال ، رأيت فيها صدقا ورغبة ورهبة ، ولمست فيها حرصا وحبا وخوفا ، كما سمعت لها أنينا أحدثته قيود الهوى والشيطان .
ولكنني سرعان ما تعجبتُ من هذه النفس ، وتساءلتُ إن كانت تنتظر اللحظة الفاصلة التي تنتقل بها فجأة نحو الهداية ، من غير أن تسعى أنت أو تتعب في هذه السبيل ؟!!
أو كانت تتنظر اللحظة الفاصلة حقا ، بين وقت الإمهال ، ووقت النهاية ، وضياع الفرصة بهجمة الموت :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوْ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ) رواه الترمذي (2306) وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ ، وضعفه الألباني .
والحقيقة التي يجب عليك إدراكُها ، والإيمانُ بها ، والتأملُ فيها أولا وأخيرا ، هي أن التغيير يبدأ منك ، ومنك فقط ، من أعماق نفسك ، وإرادتك وسعيك ، وليس بكلمات يكتبها لك المفتي ، ولا بتعليمات يرسلها إليك ناصح ، بل ولا بعزيمةٍ مترددةٍ فاترةٍ على الهداية ، تحركها العاطفة المؤقتة ، فلا تلبث أن تنطفئ وترجع إلى عهدها الأول .
فإذا وعيت ذلك أدرَكتَ أنك تعيشُ في هذه الحياة في معركةٍ واحدةٍ ، أو لِنَقُل في تحدٍّ واحد ، يُحَتِّمُ عليك أن تجمع له همَّكَ وفكرَك وجهدَك ، وتبذلَ في سبيل الفوز فيه كلَّ حيلةٍ ووسيلةٍ ، وستجد نفسك مضطرةً إلى السؤال كثيرا ، والبحث كثيرا ، والقراءة كثيرا ، كي تصل إلى السر الذي تتحكم فيه بداخلك ، فتطفئ َمن خلاله نوازعَ الشر والكسل والفشل ، وتوقظَ به قيم الخير والنجاح والعطاء .
وملخص ذلك في جملة سهلةٍ يسيرةٍ على من يسَّرها الله عليه ، بل في كلمة واحدة ، هي :
" القوة " القوة في العزيمة ، والقوة في الضبط والسيطرة ، والقوة في الاحتمال .
وأكاد أجزم لك أخي السائل أنك إن تفكرت في هذا المعنى " قوة النفس " ملكت به مفاتح الخير كلَّها إن شاء الله .
والموعظة إنما يقصد بها بعث هذا المعنى مِن جديد ، كي يتخلَّصَ القلب من أغلال الوهن والضعف التي تحول بينه وبين الهدى والنجاة ، ولعلي هنا أرسل لك ببعض الكلمات التي تخاطب بها نفسك ، لعلها تبث فيها روح الهداية والثبات :
" يا نفس ! أما تعرفين ما بين يديك من الجنة والنار ، وأنك صائرةٌ إلى إحداهما على القرب ؟! فما لك تفرحين وتضحكين وتشتغلين باللهو ، وأنت مطلوبة لهذا الخطب الجسيم !؟ وعساك اليوم تُختطفين أو غدا ، فأراك تَرَينَ الموت بعيدا ، ويراه الله قريبا .
أما تعلمين أنَّ كلَّ آتٍ قريب ، وأن البعيدَ ما ليس بآت ؟!
أما تعلمين أن الموت يأتي بغتة من غير تقديم رسول ، ومن غير مواعدة ومواطأة ؟ وأن كلَّ نَفَسٍ من الأنفاس يمكن أن يكون فيه الموت فجأة ، فإن لم يكن الموت فجأة فيكون المرض فجأة ، ثم يفضي إلى الموت ، فما لك لا تستعدين للموت وهو أقرب إليك من كل قريب ؟!
أما تتدبرين قوله تعالى : ( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ) الأنبياء/1-3
فإن كنتِ يا نفسُ قد عرفت ذاك وآمنتِ به ، فما لك تُسوِّفين العمل ، والموتُ لك بالمرصاد ؟!
أرأيتِ لو سافر رجل لِيتفَقَّهَ في الغربة ، فأقام فيها سنين متعطِّلاً بَطَّالاً ، يَعِدُ نفسَه بالتفقه في السنة الأخيرة عند رجوعه إلى وطنه ، هل كنت تضحكين من عقله ؟!
ثم هبي أن الجهد في آخر العمر نافع ، وأنه موصل إلى الدرجات العلا ، فلعل اليوم آخر عمرك ، فلم لا تشتغلين فيه بذلك ؟
أفتنتظرين يوما يأتيك لا تعسُرُ فيه مخالفةُ الشهوات ؟ هذا يومٌ لم يخلقه الله قَطُّ ، ولا يخلقه ، فلا تكون الجنةُ قَطُّ إلا محفوفةً بالمكاره ، ولا تكون المكارهُ قَطُّ خفيفةً على النفوس ، وهذا محالٌ وجوده .
أما تتأملين مذ كم تَعِدين نفسك وتقولين : غدًا ، غدًا ؟ فقد جاء الغد وصار يوما ، فكيف وجدتِهِ ؟ أما علمتِ أن الغد الذي جاء وصار يوما كان له حكم الأمس ، لا بل الذي تعجزين عنه اليوم ، فأنت غدا عنه أعجز وأعجز ، لأنَّ الشهوةَ كالشجرة الراسخة التي تعب العبد بقلعها ، فإذا عجز العبد عن قلعها للضعف وأخَّرها ، كان كمن عجز عن قلع شجرة وهو شاب قوي ، فأخرها إلى سنة أخرى ، مع العلم بأن طول المدة يزيد الشجرة قوة ورسوخا ، ويزد القالع ضعفا ووهنا .
ويحكِ يا نفسُ ! لا ينبغي أن تغرك الحياة الدنيا ، ولا يغرنك بالله الغرور ، فانظري لنفسك ، فما أمرُك بمهمٍّ لغيرِك ، ولا تُضيِّعي أوقاتك ، فالأنفاسُ معدودة ، فإذا مضى منك نَفَسٌ فقد ذهب بعضك ، فاغتنمي الصحة قبل السقم ، والفراغَ قبل الشغل ، والغنى قبل الفقر ، والشباب قبل الهرم ، والحياةَ قبل الموت ، واستعدي للآخرة على قدرِ بقائِك فيها .
ويحكِ يا نفسُ ! ما أراكِ إلا ألفت الدنيا وأنست بها ، فعسُرَ عليكِ مفارقتُها وأنت مقبلة على مقاربتها ، وتؤكدين في نفسك مودتها ، فحسبي أنك غافلةٌ عن عقاب الله وثوابه ، وعن أهوال القيامة وأحوالِها ، فما أنت مؤمنةٌ بالموت المفرِّق بينك وبين محابِّكِ .
ويحكِ يا نفسُ ! أتعلمين أن كل من يلتفت إلى ملاذ الدنيا ويأنس بها مع أن الموت من ورائه ، فإنما يستكثر من الحسرة عند المفارقة ، وإنما يتزود من السم المهلك وهو لا يدري ؟
أوَمَا تنظرين إلى الذين مضوا كيف بنوا وعلوا ثم ذهبوا وخلوا ؟ وكيف أورث الله أرضهم وديارهم أعداءهم ؟ أما ترينهم كيف يجمعون ما لا يأكلون ، ويبنون ما لا يسكنون ، ويؤملون ما لا يدركون ؟ فهل في الدنيا حمق وانتكاس أعظم من هذا ؟ يعمر الواحد دنياه وهو مرتحل عنها يقينا ، ويخرب آخرته وهو صائر إليها قطعا ؟
ويحكِ يا نفسُ ! ما لك إلا أيامٌ معدودة ، هي بضاعتك إن اتجرت فيها ، وقد ضيعتِ أكثرَها ، فلو بكيت بقيةَ عمرك على ما ضيعت منها لكنت مقصرة في حق نفسك ، فكيف إذا ضيعت البقية وأصررت على عادتك ؟ أما تعلمين يا نفس أن الموت موعدُك ، والقبرَ بيتُك ، والترابَ فراشُك ، والدودَ أنيسُك ، والفزعَ الأكبرَ بين يديك ؟
فاحذري أيتها النفس المسكينة يوما آلى الله فيه على نفسه أن لا يترك عبدا أَمَرَه في الدنيا ونهاه حتى يسأله عن عمله دقيقه وجليله ، سره وعلانيته ، فانظري يا نفس بأي بدن تقفين بين يدي الله ، بأي لسان تجيبين ، وأعدي للسؤال جوابا ، وللجواب صوابا ، واعملي بقية عمرك في أيام قصار لأيام طوال ، وفي دارِ زوالٍ لدار مقامة ، وفي دار حزن ونَصَبٍ لدار نعيم وخلود ، اعملي قبل أن لا تعملي ، اخرجي من الدنيا اختيارا خروج الأحرار ، قبل أن تخرجي منها على الاضطرار ، ولا تفرحي بما يساعدك من زهرات الدنيا ، فرب مسرور مغبون ، ورب مغبون لا يشعر ، فويل لمن له الويل ثم لا يشعر ، يضحك ويفرح ويلهو ويمرح ويأكل ويشرب ، وقد حق له في كتاب الله أنه من وقود النار .
فليكن نظرك يا نفس إلى الدنيا اعتبارا ، وسعيك لها اضطرارا ، ورفضك لها اختيارا ، وطلبك للآخرة ابتداءا ، ولا تكوني ممن يعجز عن شكر ما أُتِي ، ويبتغي الزيادةَ فيما بَقي .
واعلمي يا نفس أنه ليس للدين عِوض ، ولا للإيمان بَدَل ، ولا للجسد خلف ، ومن كانت مطيته الليل والنهار ، فإنه يُسار به وإن لم يسر .
فاتعظي يا نفس بهذه الموعظة ، واقبلي هذه النصيحة ، فإن من أعرض عن الموعظة فقد رضي بالنار ، وما أراك بها راضية ، ولا لهذه الموعظة واعية .
فإن كانت القساوة تمنعك عن قبول الموعظة فاستعيني عليها بدوام التهجد والقيام ، فإن لم تزل فبالمواظبة على الصيام ، فإن لم يزل فبقلة المخالطة والكلام ، فإن لم يزل فبصلة الأرحام واللطف بالأيتام ، واستعيني بأرحم الراحمين ، واشتكي إلى أكرم الأكرمين ، وأدمني الاستغاثة ، ولا تملي طول الشكاية ، لعله أن يرحم ضعفك ويغيثك ، فإنَّ مصيبَتَك قد عظمت ، وبليتَك قد تفاقمت ، وتماديك قد طال ، وقد انقطعت منك الحيل ، وراحت عنك العلل ، فلا مذهب ولا مطلب ، ولا مستغاثَ ولا مهرب ، ولا ملجأَ ولا منجا إلا إلى مولاكِ ، فافزعي إليه بالتضرع ، واخشعي في تضرعك على قدر عظم جهلك وكثرة ذنوبك ؛ لأنه يرحم المتضرع الذليل ، ويغيث الطالب المتلهف ، ويجيب دعوة المضطر ، وقد أصبحت اليوم مضطرة ، وإلى رحمته محتاجة ، وقد ضاقت بك السبل ، وانسدت عليك الطرق ، وانقطعت منك الحيل ، والمطلوب كريم ، والمسؤول جواد ، والمستغاث به بر رؤوف ، والرحمة واسعة ، والكرم فائض ، والعفو شامل ." اختصارا من "إحياء علوم الدين" (4/416-422)
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بكلام الصالحين ، وموعظة الصادقين .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب