والوجه الثاني: أنه ليس بتكرير للأول؛ وإنما هو تأسيس، ويكون الحاصل من الجملتين: أن مع كل عسر يسرين عظيمين. والظاهر أن المراد بذينك اليسرين: يسر دنيوي، ويسر أخروي. وفي حديث ابن مسعود أنه لما قرأ: { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا }، قال: ” لن يغلب عسر يسرين “. قيل: معناه: أن العسر بين يسرين؛ إما فرج عاجل في الدنيا، وإما ثواب آجل في الآخرة.
وقال الكرماني في(أسرار التكرار في القرآن): ” قوله - تعالى -: { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } ليس بتكرار؛ لأن المعنى: إن مع العسر، الذي أنت فيه من مقاساة الكفار يسرًا في العاجل، وإن مع العسر، الذي أنت فيه من الكفار يسرًا في الآجل. فالعسر واحد واليسر اثنان “.
وعلى هذا يكون قوله - تعالى -: { إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } وعدًا آخر مستأنفًا، غير الوعد الأول. قال الألوسي: ” واحتمال الاستئناف هو الراجح، لما علم من فضل التأسيس على التأكيد. كيف، وكلام الله - تعالى -محمول على أبلغ الاحتمالين، وأوفاهما! والمقام- كما تقدم- مقام التسلية والتنفيس.
وكان الظاهر على ما سمعت من المراد باليسر تعريفه؛ إلا أنه أوثر التنكير للتفخيم. وقد يقال: إن فائدته أظهر في التأسيس؛ لأن النكرة المعادة، ظاهرها التغاير، والإشعار بالفرق بين العسر واليسر“.
والفرق بين التأسيس، والتكرير: أن التكرير يكون بإيراد المعنى مرددًا بلفظ واحد؛ ومنه ما يأتي لفائدة، ومنه ما يأتي لغير فائدة. فأما الذي يأتي لفائدة فإنه جزء من الإطناب، والغرض منه التأكيد والتأكيد هو تقرير إرادة معنى الأول، وعدم التجوُّز.. أما التأسيس فيفيد معنى آخر، لم يكن حاصلاً قبل، وهو خير من التأكيد؛ لأن حمل الكلام على الإفادة خير من حمله الإعادة. ولهذا قال الزمخشري في قوله تعالى{ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ {(التكاثر: 3-4): إن الثانية تأسيس، لا تأكيد؛ لأنه جعل الثانية أبلغ في الإنشاء، فقال: وفي{ ثُمَّ { تنبيه على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول.
وهذا القول هو اختيار الحسين بن يحيى الجرجاني، ونصُّ قوله في ذلك: ” والصحيح أن يقال: إن الله بعث نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - مقلاًّ مخفًّا، فعيَّره المشركون بفقره، حتى قالوا له: نجمع لك مالاً. فاغتمَّ، وظن أنهم كذبوه لفقره، فعزَّاه الله، وعدَّد نعمه عليه، ووعده الغنى بقوله: { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا }. أي: لا يحزنك ما عيَّروك به من الفقر؛ فإن مع ذلك العسر يسرًا عاجلاً. أي: في الدنيا. فأنجز له ما وعده، فلم يمت حتى فتح عليه الحجاز واليمن، ووسَّع ذاتَ يده حتى كان يعطي الرجل المائتين من الإبل، ويهب الهبات السنية، ويعدُّ لأهله قوت سنة. فهذا الفضل كله من أمر الدنيا، وإن كان خاصًّا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد يدخل فيه بعض أمته، إن شاء الله - تعالى -.
ثم ابتدأ فضلاً آخر من الآخرة، وفيه تأسية وتعزية له - صلى الله عليه وسلم -، فقال مبتدئًا: { إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } ؛ فهو شيء آخر. والدليل على ابتدائه تعرِّيه من فاء، أو واو، أو غيرها من حروف النسق، التي تدل على العطف. فهذا وعد عام لجميع المؤمنين، لا يخرج أحد منه. أي: إن مع العسر في الدنيا للمؤمنين يسرًا في الآخرة، لا محالة.
وربما اجتمع يسر الدنيا، ويسر الآخرة. والذي في الخبر: ” لن يغلب عسر يسرين“. يعني: العسر الواحد لن يغلبهما؛ وإنما يغلب أحدهما، إن غلب، وهو يسر الدنيا. فأما يسر الآخرة فكائن لا محالة، ولن يغلبه شيء. أو يقال: إن مع العسر، وهو إخراج أهل مكة النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة يسرًا، وهو دخوله يوم فتح مكة مع عشرة آلاف رجل مع عز وشرف “.
وظاهر المعية في قوله - تعالى -: { مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } يقتضي أن يكون اليسر مصاحبًا للعسر ومقارنًا له؛ لأن{ مَعَ } ظرف يدل على المصاحبة. ولما كان اليسر لا يجتمع مع العسر؛ لأنهما ضدان، أجيب عن ذلك بأن { مَعَ }- هنا- مستعملة في غير معناها الحقيقي، وأنها مستعارة لقرب حصول اليسر عقب حلول العسر، أو ظهور بوادره. وبذلك يندفع التعارض بين هذه الآية، وبين قوله - تعالى -: { سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً }(الطلاق: 7).
ثم إنه يبعد إرادة المعية الحقيقية ما أخرجه البزار وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم والبيهقي في الشعب عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله - تعالى -عليه وسلم جالسًا، وحياله حجر، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ” لو جاء العسر فدخل هذا الحجر، لجاء اليسر حتى يدخل عليه، فيخرجه“، فأنزل الله - تعالى -: { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا.. إلخ }. ولفظ الطبراني: وتلا رسول الله صلى الله - تعالى -عليه وسلم: { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا.. {.
تاسعًا- ثم يجيء التوجيه الكريم من الله - جل وعلا - لمواقع التيسير، وأسباب الانشراح، ومستودع الري والزاد في الطريق الشاق الطويل، فيقول - سبحانه وتعالى -: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } (الشرح: 7-
.
أي: إذا فرغت من عبادة- كتبليغ الوحي- فاتعب في عبادة أخرى، شكرًا لما عددنا عليك من النعم السالفة، ووعدناك من الآلاء الآنفة؛ وكأنه - عز وجل -، لمَّا عدَّد على نبيه وحبيبه محمد - صلى الله عليه وسلم - ما عدَّد، ووعده بما وعد، وحقق له ما وعد، بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة، وأن لا يخلي وقتًا من أوقاته منها؛ ولهذا كان - عليه الصلاة والسلام -، إذا ما فرغ من عبادة أتبعها بأخرى.
والفراغ- في اللغة- خلاف الشُّغل. يقال: فرغ من عمله فراغًا، فهو فارغ. قال - تعالى -: { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ } (الرحمن: 31)، وفسِّر بقولهم: سنقصد لكم أيها الثقلان. وقوله - تعالى -: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً } (القصص: 10). قيل في تفسيره: خاليًا؛ وكأنما فرغ من لبِّها، لِمَا تداخلها من الخوف. وقيل: فارغًا من ذكره. أي: أنسيناها ذكره، حتى سكنت، واحتملت أن تلقيه في اليم. وقيل: خاليًا إلا من ذكره؛ لأنه قال: { إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } (القصص: 10)
وظاهر قوله - تعالى -: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } يفيد أنه - عليه الصلاة والسلام - كان في أعمال، لم ينته منها؛ ولكن السياق لم يذكر لنا شيئًا عن تلك الأعمال، يكون متعلَّقًا للفعل{ فَرَغْتَ } . وعدم ذكره يقتضي أنه لازم أعمال، يعلمها الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ كما أن مساق السورة في تيسير مصاعب الدعوة، وتذليل ما يحف بها من مكاره.
وعليه يكون المعنى: إذا أتممت عملاً من مهام الأعمال، فأقبل على عمل آخر؛ بحيث يعمر أوقاته كلها بالأعمال العظيمة. ومن هنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند وجوعه من إحدى غزواته: ” رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر “.
وبهذا يتبين أن المقصود بالأمر هو قوله - تعالى -: { فَانْصَبْ }. أما قوله - تعالى -: { فَإِذَا فَرَغْتَ ْفتمهيد وإفادة لإِيلاءِ العمل بعمل آخر في تقرير الدين ونفع الأمة.. وهذا من صيغ الدلالة على تعاقب الأعمال. ومثله قول القائل: ما تأتيني من فلان صلة إلا أعقبَتْها أخرى. ولهذا قدِّم قوله - تعالى -: { فَرَغْتَ } على قوله: { فَانْصَبْ }. وجيء بالفاء الرابطة؛ لتدل على أن ما بعدها واجب الوقوع عقب وقوع الشرط مباشرة. وعليه يكون قوله - تعالى -: { فَانْصَبْ } أمرًا بإحداث الفعل فورًا بعد حدوث الشرط من دون أي تأخير.
ثم أمره - سبحانه وتعالى - بأن يرغب إلى ربه وحده. أي: بأن يحرص بسؤاله وحده، ولا يسأل غيره تعالى؛ فإنه القادر على الإسعاف، لا غيره - عز وجل - { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } .
وقوله - تعالى -: { فَارْغَبْ } هو من الرَّغْبَة. والرَّغبة هي السَّعة في الإرادة. قال - تعالى - عن إبراهيم - عليه السلام -: { وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } (الأنبياء: 90). أي: رغبًا في رحمتنا، ورهبًا من عذابنا.
فإذا قيل: رغب فيه، وإليه، اقتضي الحرص عليه. قال - تعالى -: { إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ } (التوبة: 59). وعلى هذا يحمل قوله - تعالى -هنا: { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } ، تشبيهًا بسير السائر إلى من عنده حاجته؛ كما قال - تعالى -عن إبراهيم - عليه السلام -: { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ } (الصافات: 99).
وإذا قيل: رغب عنه، اقتضى صرْف الرّغبة عنه، والزهد فيه؛ نحو قوله - تعالى -: { أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ }(مريم: 46). وقوله - تعالى -: { وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ } (النساء: 127). فالت عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -: وترغبون عن أن تنكحوهن.
وقدم قوله - تعالى -: { إِلَى رَبِّكَ } على قوله: { فَارْغَبْ } ، لإفادة معنى الاختصاص. أي: إليه، لا إلى غيره تكون رغبتك؛ فإن صفة الرسالة أعظم صفات الخلق، فلا يليق بصاحبها أن يرغب إلى غير الله - تعالى -. وتقديمه هو ممَّا قُدِّم فيه المتعلَّق على المتعلَّق به، أو المعمول على العامل على حدِّ تعبير النحاة. ولم تمنع الفاء من هذا التقديم، خلافًا للمشهور من أقوالهم.
ولهذا نجدهم يقدرون عاملاّ محذوفًا لـ{ ارْغَبْ }، ويجعلون حذفه للتعميم. وعلى قولهم يكون التقدير: وارغب إلى ربك، فارغب إليه. أو فارغبه. والذي ألجأهم إلى هذا التكلف في التأويل ما اصطلحوا عليه من أن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها، والذي عليه أهل التحقيق خلاف ذلك. والله - تعالى -أعلم بأسرار بيانه!!
المصدر : المختار الإسلامي