مراحل تنزيل القرآن وكيفياتها
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه..وبعد:
فقد أنزل الله القرآن على رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - لهداية البشرية، فكان نزوله حدثًا جللاً يؤذن بمكانته لدى أهل السماء وأهل الأرض، ومما لا خلاف فيه أن العلم بنزول القرآن مهم للغاية لأنه أساس للإيمان به وأنه كلام الله - سبحانه وتعالى -.
ويستفاد من الأخبار الصحيحة والآراء الموثوق بها من العلماء أن القرآن الكريم نزل من لدن الحق- تبارك وتعالى -على ثلاث مراحل أو ثلاث تنزلات:
التنزيل الأول
هو صدور القرآن وانبثاقه من الذات الإلهية إلى اللوح المحفوظ وذلك أمر من الأمور الغيبية الأزلية التي جاء بها الخبر الصادق ولزمنا الإيمان بها دون علم بكيفيتها إذ لا يعلم كيفية ذلك إلا الله - تعالى -، وكان هذا التنزيل جملة لا مفرقًا، والله - تعالى -يقول: بل هو قرآن مجيد (21) في لوح محفوظ.
والظاهر أن تنزل القرآن إلى اللوح المحفوظ كان بطريقة وفي وقت لا يعلمها إلا الله، وكان جملة لا مفرقًا فوجب الإيمان به مع تفويض علم كيفيته إلى الله - عز وجل -. وربما يسأل سائل ويقول: ما الحكمة في تنزل القرآن إلى اللوح المحفوظ؟
والجواب: أن الحكمة في هذا التنزل ترجع إلى الحكمة العامة من وجود اللوح المحفوظ نفسه، حيث جعله الله سجلاً جامعًا لكل ما قضى الله وقدَّر وكل ما كان وما يكون فهو شاهد ناطق ومظهر من أروع المظاهر الدالة على عظمة الله - سبحانه وتعالى -.
أما التنزيل الثاني
فكان من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، والدليل قوله - تعالى -: "إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين" {الدخان: 3}. وقوله - تعالى -: "إنا أنزلناه في ليلة القدر" {القدر: 1}، وقوله - تعالى -: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن " {البقرة: 185}، فقد دلت هذه الآيات الثلاث على أن القرآن أنزل في ليلة واحدة توصف بأنها مباركة أخذًا من آية الدخان، وتسمى ليلة القدر أخذًا من آية القدر، وهي من ليالي شهر رمضان أخذًا من آية البقرة، وإنما قلنا ذلك جمعًا بين هذه النصوص في العمل بها، ومعلوم بالأدلة القاطعة أن القرآن أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - مفرقًا لا في ليلة واحدة، بل على مدى سنين عديدة، فيتعين أن يكون هذا النزول الذي نوهت به الآيات الثلاث نزولاً آخر غير النزول على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد جاءت الأخبار الصحيحة مبينة لمكان هذا النزول، وأنه بيت العزة من السماء الدنيا، فعن ابن عباس أنه قال: "فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل به على النبي - صلى الله عليه وسلم -..
وعن ابن عباس أيضًا قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا، وكان بمواقع النجوم، وكان الله ينزله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بعضه في أثر بعض.
وقد ذكر الحافظ السيوطي في كتابه الإتقان روايات عن ابن عباس بهذا المعنى وقال: أسانيدها كلها صحيحة، وهذا لا يقوله ابن عباس بمحض الرأي والاجتهاد، بل له حكم المرفوع. وإذا كانت هذه الآيات لا تنافي بينها فهي لا تتنافى في الواقع الثابت من أنه نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير شهر رمضان وليلة القدر؛ لأن ذلك في نزوله إلى السماء الدنيا كما علمت، وهذا في نزوله على النبي - صلى الله عليه وسلم - منجمًا (أي مفرقًا) بحسب الوقائع والأحوال وجواب الأسئلة والأمثال في عشرين سنة، أو ثلاث وعشرين سنة، أو خمس وعشرين سنة، على الخلاف في مدة إقامته في مكة بعد البعثة، وهذا البيان الذي ذكرناه في المراد من الآيات المذكورة وطرق الجمع بينها هو الصحيح المعتمد حتى حكى بعضهم الإجماع عليه.
التنزيل الثالث
وهو المرحلة الأخيرة التي منها شع النور على العالم، ووصلت هداية الله إلى الخلق، وكان النزول بواسطة أمين الوحي جبريل يهبط به على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نزل به الروح الأمين (193) على قلبك لتكون من المنذرين (194) بلسان عربي مبين" {الشعراء: 193- 195}، حيث كان ينزل به مفرقًا على حسب الحوادث والأحوال حسب مشيئة الله - تعالى - فيوحي به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث كان الله - تعالى -يجمعه له في صدره، وينطقه على لسانه، وصدق الله العظيم: "لا تحرك به لسانك لتعجل به (16) إن علينا جمعه وقرآنه"، "وإنه لتنزيل رب العالمين (192) نزل به الروح الأمين (193) على قلبك لتكون من المنذرين".
وقد دام هذا التنزيل ثلاثة وعشرين سنة حيث ابتدأ من بدء الوحي بالآيات الأولى وانتهى بآخر ما أنزل من القرآن قبيل وفاته.
حكمة تعدد التنزلات
وقد استنبط العلماء لتعدد تنزلات القرآن الكريم حكمًا كثيرة نجتزئ بذكر بعضها حيث لا يخلو بعضها من تكلف، وفوق ذلك كله حكمة العليم الحكيم - سبحانه -.
يقول السيوطي في الإتقان نقلاً عن الزركشي في البرهان، كما حكاه الزرقاني في مناهل العرفان: فإن قيل: ما السر في إنزاله جملة إلى السماء الدنيا؟ قيل: فيه تفخيم لأمره وأمر من نزل عليه وذلك بإعلان سكان السماوات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل، لأشرف الأمم، ولقد قربناه إليهم لننزله عليهم، ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم منجمًا "مفرقًا" بحسب الوقائع لهبط به إلى الأرض جملة- كسائر الكتب المنزلة قبله- ولكن الله باين بينه وبينها فجعل له الأمرين: إنزاله جملة، ثم إنزاله مفرقًا، تشريفًا للمنزل عليه.
قال السيوطي: ذكر ذلك أبو شامة في المرشد الوجيز.
وقال السخاوي في جمال القراء: في نزوله إلى السماء جملة تكريم بني آدم وتعظيم شأنهم عند الملائكة، وتعريفهم عناية الله بهم ورحمته لهم، ولهذا المعنى أمر سبعين ألفًا من الملائكة أن تشيع سورة الأنعام، وزاد - سبحانه - في هذا المعنى بأن أمر جبريل بإملائه على السفرة الكرام وإنساخهم إياه وتلاوتهم له. قال: وفيه أيضًا التسوية بين نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وبين موسى - عليه السلام - في إنزاله كتابه جملة، والتفصيل لنبينا محمد في إنزاله عليه مفرقًا ليحفظه.
ثم يتابع الزرقاني فيقول: وفي تعدد النزول وأماكنه مرة في اللوح، وأخرى في بيت العزة، وثالثة على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -، في ذلك التعدد مبالغة في نفي الشك عن القرآن، وزيادة الإيمان به، وباعث على الثقة فيه؛ لأن الكلام إذا سجل في سجلات متعددة وصحت له وجودات كثيرة، كان ذلك أنفى للريب عنه، وأدعى إلى تسليم ثبوته، وأدنى إلى وفرة الإيقان به مما لو سجل في سجل واحد أو كان له وجود واحد.
أول ما نزل من القرآن:
أول ما نزل من القرآن على وجه الإطلاق قطعًا الآيات الخمس الأولى من سورة العلق وهي قوله - تعالى -: "اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم " {العلق: 1- 5}، ثم فتر الوحي مدة ثم نزلت الآيات الخمسُ الأولى من سورة المدثر، وهي قوله - تعالى -: "يا أيها المدثر (1) قم فأنذر (2) وربك فكبر (3) وثيابك فطهر (4) والرجز فاهجر "{المدثر: 1- 5}.
ففي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - في بدء الوحي قالت: حتى جاءه الحقُ، وهو في غار حراء، فجاءه المَلَكُ فقال: اقرأ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنا بقارئ" أي: لست أعرف القراءة، فذكر الحديث، وفيه ثم قال: اقرأ باسم ربك الذي خلق إلى قوله: علم الإنسان ما لم يعلم {العلق: 1- 5}، وفيهما عن جابر - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: وهو يحدث عن فترة الوحي: "بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء... " فذكر الحديث، وفيه: فأنزل الله - تعالى -: يا أيها المدثر (1) قم فأنذر (2) وربك فكبر (3) وثيابك فطهر (4) والرجز فاهجر {المدثر: 1- 5}.
وهناك آيات يقال فيها: أول ما نزل، والمراد أول ما نزل باعتبار شيء معين، فتكون أولية مقيدة مثل: حديث جابر - رضي الله عنه - في "الصحيحين" أن أبا سلمة بن عبد الرحمن سأله: أي القرآن أُنزل أول؟ قال جابر: يا أيها المدثر قال أبو سلمة: انبئت أنه: اقرأ باسم ربك الذي خلق فقال جابر: لا أخبرك إلا بما قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "جاورت في حراء فلما قضيت جواري هبطت... " فذكر الحديث، وفيه: "فأتيت خديجة فقلت: دثروني، وصبَّوا عليَّ ماءً باردًا، وأنزل عليّ: يا أيها المدثر إلى قوله: والرجز فاهجر، فهذه الأولية التي ذكرها جابر - رضي الله عنه - باعتبار أول ما نزل بعد فترة الوحي، أو أول ما نزل في شأن الرسالة؛ لأن ما نزل من سورة "اقرأ" ثبت به نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما نزل من سورة المدثر ثبت به الرسالة في قوله: قم فأنذر {المدثر: 2}، ولهذا قال أهل العلم:إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نُبِّئ ب اقرأ {العلق: 1}، وأرسل ب المدثر {المدثر: 1}.
رزقني الله وإياكم العلم النافع والعمل الصالح. والله من وراء القصد.
صيد الفوائد