آيات مشكلات
د. محمد بن عبد العزيز المسند
((ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ* فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ)) (يوسف: 60، 59)
من الآيات المشكلة ما جاء في قصّة يوسف - عليه السلام - من قدوم إخوته عليه بعد توليه الوزارة، وقوله لهم بعد أن جهّزهم بجهازهم: ((ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ * فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ)) (يوسف: 59، 60) فقد ذهب جمهور المفسّرين إلى القول بأنّ يوسف - عليه السلام - قال لهم ذلك بعد أن كال لهم، وقد تأمّلت هذه الآيات فظهر لي أنّ يوسف - عليه السلام - لم يكل لإخوته أوّل ما جاءوه طمعاً في رجوعهم إليه مع أخيه بنيامين في أسرع وقت، وقد دلّ على ذلك السياق من عشرة أوجه:
* أحدها: قوله: ((ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم))
والأمر يقتضي الفور عند جمع من المحقّقين من أهل العلم، إلا لدليل يقتضي الخروج عن ذلك [1]ولا دليل هنا، بل الأدلّة تدلّ على أنّه للفور كما سيأتي..
* الثاني: قوله: ((أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الكيل))
ولو كان قد كال لهم لقال: (ألم تروا أنّي أوفيت لكم الكيل).
* الثالث: قوله: ((فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي))
أي: في الحال، ولو أراد السنة القادمة لبيّن ذلك.
* الرابع: قولهم: ((سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ)) (يوسف: 61) والسين - عند جمع من أهل اللغة - للمستقبل القريب، ولو كان السنة القادمة لقالوا: (سوف نراود عنه أباه).
* الخامس: قوله: ((اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) (يوسف: 62).
ولو كان قد كال لهم لما أعاد إليهم بضاعتهم، إذ في ذلك تضييع للأمانة التي أوكل بحفظها من قبل ملك مصر، ومناقضة لقوله من قبل: (إني حفيظ عليم).
السادس: قولهم لأبيهم فور وصولهم: ((مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ)) (يوسف: 63) وهو متناول للماضي والحاضر والمستقبل، والمراد مطلق المنع حتى يأتوا بأخيهم، ولا دليل على إرادة المستقبل.
* السابع: قولهم: ((فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ)) (يوسف: 63)
الفاء مع فعل الأمر تفيد المبادرة والفور، وكذلك مبادرتهم أباهم بهذا الطلب قبل فتح المتاع يدلّ على الفور.، وأنّهم لم يكتالوا شيئاً.
* الثامن: قولهم: ((نَكْتَلْ))
تأكيد لما سبق من أنّهم لم يكتالوا شيئاً.
* التاسع: قولهم: ((وَنَمِيرُ أَهْلَنَا)) (يوسف: 65)
دليل على أنّهم لم يمتاروا شيئاً.
* العاشر: قوله في المرّة الثانية: ((أَيَّتُهَا الْعِيرُ)) (يوسف: 70)
وكذلك قوله في المرّة الثالثة: ((وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ)) (يوسف: 94).
ولم يقل ذلك في المرّة الأولى. والعير اسم للراحلة والركّاب والميرة جميعاً.
هذه عشرة أوجه حسبما ظهر لي من سياق الآيات، وقد رأيت عامّة المفسرين لم يذكروا إلا القول الآخر، فكنت أتحرّج من ذكر هذا القول، والذهاب إليه، حتى رأيت ابن الجوزي في تفسيره ذكر هذا القول عن وهب بن منبّه، قال - رحمه الله - في قوله - تعالى -: ((فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي)) (يوسف: 60).
وفيه قولان: أحدهما: أنّه يعني به فيما بعد، وهو قول الأكثرين. والثاني: أنّه منعهم الكيل في الحال، قاله وهب بن منبّه[2].
((وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ... )) (النور: 31)
سألني أحد طلبة العلم يوماً: لِمَ لم يُذكر العمّ والخال في آية النور التي ذُكر فيها من يباح للمرأة إبداء زينتها لهم، وهي قوله - تعالى -: ((وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء)) (النور: 31).
مع أنّهما أي العم والخال من المحارم؟!، فأشكل عليّ ذلك، ولم أعرف جوابه، ثمّ إنّي راجعت كتب التفسير فلم أجد في أقوال المفسّرين ما يشفي الغليل، فما برحتْ تلك المسألة تجول في خاطري وتراودني حيناً بعد حين، حتى تلقيت اتصالات عدّة من رجال ونساء يشتكون أعماماً وأخوالاً أقاموا علاقات مريبة من بنات إخوانهم أو بنات أخواتهم، وبعضها في صورة اعتداء خفي على قاصرات منهن لا يحملن سوى براءة الطفولة، ممّا كان له الأثر السيّء على مستقبلهنّ، فتذكرت تلك المسألة التي لم أجد لها جواباً، وأدركت سرّ إهمال ذكر العمّ والخال في الآية المذكورة، فسبحان العليم الحكيم الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، وهي لفتة مهمّة للأولياء والنساء على حدّ سواء، ليحذروا من عواقب هذا الأمر، فبنت الأخ وبنت الأخت لا ينبغي لأيّ منهما أن تبدي زينتها عند العمّ والخال درءاً للفتنة، وعملاً بهذه الآية الكريمة، والخلوة من باب أولى، لكنّها لا تستتر عنهما كما تستتر عن الرجال الأجانب، بل تظهر محتشمة غير مبدية لزينتها.
والله - تعالى -أعلم،،،
----------------------------------------
[1] ينظر: الأصول من علم الأصول للشيخ محمد العثيمين (مؤسسة الرسالة: بيروت، ط2، 1403هـ): ص28. وينظر: المسوّدة في أصول الفقه لآل ابن تيمية (مطبعة المدني بمصر): ص22.
[2]زاد المسير في علم التفسير (المكتب الإسلامي، بيروت؛ ط1): ص705.