الجواب عن الأمر الثالث :
و أما الجواب عن الأمر الثالث ، و هو عدم جزم بعض الرواة برواية الإثبات فهو أنه لا يجوز التمسك بـها في إعلال الروايات الأخرى الجازمة بالإثبات بل إن هذه تعل رواية ذلك البعض ، و ذلك لوجوه :
الأول : أن من لم يجزم معناه أنه لا علم عنده بالأمر و أنه لم يحفظه ، بخلاف الذي جزم فإنه يدل على أنه قد علمه و حفظه ، فكيف يصح ترجيح رواية من لم يحفظ على رواية من حفظ ؟! و هل هذا إلا خلاف ما هو مسلم به عند جميع العلماء : أن من حفظ حجة على من لم يحفظ ، و من علم حجة على من لم يعلم ، و خلاف للقاعدة المقررة عندهم و هي التي تقول : (( المثبت مقدم على النافي )) ، فكيف و هذا الذي لم يجزم ينف ، بل إنه أثبت ، و لكن بدون جزم ، فهذه الرواية في الحقيقة مؤيدة لرواية الإثبات و مقوية لها ، فكيف يصح أن تجعل معلة لها ؟!
ثانياً : أن رواية من لم يجزم بالإثبات لا تصح أصلاً ، فلا يجوز أن يحتج بـها فضلاً عن أن يعارض بـها ما رواه الثقات الأثبات عن محمد بن جعفر من الجزم بالإثبات ، ذلك لأن هذه الرواية تفرد بـها عن محمد هذا عيسى بن مينا و هو ضعيف ، قال الذهبي في (( المغني )) : (( حجة في القراءات ، لا في الحديث ، سئل عنه أحمد بن صالح ؟ فضحك و قال : يكتبون عن كل أحد ))(6).
ثالثاً : أن عيسى هذا قد ورد الحديث عنه بالإثبات كما رواه الثقات ، أخرجه عنه الضياء المقدسي في (( الأحاديث المختارة )) ( ق 124/ 2 ) من طريق إبراهيم بن الحسين ثنا عيسى بن مينا به بلفظ : (( فقلت له سنّة ؟ قال : نعم )) ، فجزم بالإثبات و لم يشك ، و قال المقدسي عقبها : (( رواه الترمذي عن محمد بن إسماعيل عن سعيد بن أبي مريم عن محمد بن جعفر و قال : حديث حسن )) ، و أقره .
و ابن الحسين هذا هو ابن ديزل و هو ثقة مأمون كما قال الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي(7) .
فهذا دليل واضح على أن رواية عيسى مثل رواية غيره في الجزم بالإثبات ، و الظاهر أن إسماعيل القاضي نفسه هو الذي لم يضبط الرواية عن عيسى جيداً ، و إن كان أشار في الوقت ذاته إلى أنـها هي الراجحة عنده بقوله : (( .. أحسبه )) و ذلك من دقته في الرواية ، رحمه الله تعالى .
رابعاً : أنه قد خالف في ذلك جماعة من الثقات كلهم جزموا في روايتهم عن محمد بن جعفر أن أنساً قال : (( نعم )) بدون أي شك ، و هؤلاء الثقات هم :
الأول : عثمان بن سعيد الدارمي و هو ثقة ثبت حافظ إمام(
، و لفظ حديثه … عن محمد بن كعب قال : أتيت أنس بن مالك في رمضان و هو يريد السفر ، و قد رحلت دابته و لبس ثياب السفر ، و قد تقارب غروب الشمس ، فدعا بطعام فأكل منه ، ثم ركب ، فقلت له سنة ؟ قال : نعم .
أخرجه البيهقي في سننه الكبرى ( 4/ 247 ) .
الثاني : إسماعيل بن إسحق بن سهل ، و هو صدوق كما قال ابن أبي حاتم ( 1/1/158 ) ، و لفظه مثل لفظ حديث الدارمي تماماً .
أخرجه الدارقطني ( ص 241 ) ، و قد عزاه إليه الشيخ نفسه عن العراقي ، و هو من عجائبه ، فإنه سكت عنه مع أنه صحيح الإسناد ، و آثر عليه رواية الشك مع ضعفها و نكارتـها و عدم صلاحيتها للمعارضة لو صحت كما سبق !
الثالث : محمد بن إسماعيل و هو الإمام البخاري صاحب (( الجامع الصحيح )) .
أخرجه عنه الترمذي ( 1/152 ) و هو و إن لم يكن قد ساق لفظه فإنه قد أحال فيه على لفظ عبد الله بن جعفر المصرح بالإثبات ، و ذلك بقوله عقبه : (( نحوه )) مشيراً بذلك إلى أنه مثله في
المعنى .
فهذا القول من الترمذي و إن كان لا يقتضي أن رواية البخاري لفظها مثل لفظ حديث عبد الله بن جعفر كما قال العراقي ، فإنه لا ينفي أن يكون مثلها في المعنى ، بل هو نص على اتحادهما في المعنى ، كما هو مبين في علم (( مصطلح الحديث ))(9).
و إذا كان من الأمور المسلمة أن الألفاظ قوالب للمعاني ، و أن المعاني هي المقصودة بالذات ، فلا يضرنا بعد ذلك اتفقت الألفاظ أو اتحدت ، و لهذا اتفق جمهور العلماء على جواز رواية الحديث بالمعنى بتفصيل مذكور في محله من هذا العلم : (( المصطلح )) ، و قالوا : (( ينبغي لمن يروي حديثاً بالمعنى بأن يقول : أو كما قال ، أو نحو هذا )) .
فلو كانت رواية البخاري مثل رواية ابن مينا في المعنى لم يجز القول عقبها (( نحوه )) لأنـها ليست مثلها في المعنى ، بخلاف رواية عبد الله بن جعفر فإنـها متحدة في المعنى مع رواية البخاري و لذلك جاز للترمذي – و هو من أئمة هذا العلم – أن يقول عقبها (( نحوه )) أي نحو حديث ابن جعفر في اللفظ و مثله في المعنى .
فإذا تبين هذا ، فالاسترواح حينئذٍ إلى أن اللفظ مختلف مما لا يجدي ، مادام أن المعنى واحد !
على أن قول الترمذي (( نحوه )) لا ينفي الاتفاق بين الروايتين في بعض ألفاظ الحديث ، فإذا ثبت أن لفظ حديث محمد بن جعفر على الإثبات برواية الثقتين المذكورين ، فالأقرب أنه هو المراد برواية البخاري هذه ، و ليس رواية ابن ميناء الضعيف . إذ الأصل في روايات الثقات الاتفاق لا الاختلاف ، إلا لدليل و هو هنا معدوم ، فثبت من ذلك أن رواية البخاري كرواية الثقتين قبله و هو المراد .
الرابع : يحيى بن أيوب العلاف ، و هو صدوق كما قال الحافظ ابن حجر و غيره .
أخرج حديثه الطبراني في (( المعجم الأوسط )) ( 1/98/2 من الجمع بينه و بين المعجم
الصغير ) .
و هو و إن كان قد خالف من قبله في بعض الحديث كما سيأتي تحقيقه ، فقد تابعهم على رواية الحديث على الصواب في باقيه ، فكان في ذلك حجة على صحة رواية الإثبات .
فقد اتفق هؤلاء الثقات الأربعة جميعاً على أن رواية محمد بن جعفر الثقة لهذا الحديث على الإثبات ، و أنـها في ذلك مثل رواية عبد الله بن جعفر سواء ، فإذا تذكرت أن عيسى بن ميناء قد خالفهم عنه في هذه الرواية – على التفصيل الذي سبق بيانه – و أنه ضعيف لم يجز بوجه من الوجوه ترجيح روايته على روايتهم ، و الجزم بأن روايته هي لفظ رواية محمد بن جعفر كما فعل العراقي – سامحه الله – بل العكس هو الصواب ، كما لا يخفى على ذوي الألباب . ذلك لأن من المقرر في علم الحديث أن الثقة إذا خالف في حديثه من هو أحفظ منه أو أكثر عدداً فحديثه شاذ ، و إذا كان المخالف ضعيفاً فحديثه منكر(10) ، فلو أن ابن مينا كان ثقة لكان حديثه هذا شاذاً مردوداً ، فكيف و هو ضعيف ؟! فلا شك في أن حديثه منكر مرفوض !
و هنا نقف لنتساءل : هل اطلع فضيلة الشيخ الحبشي على رواية هؤلاء الثقات ، أم خفيت عليه ؟
الجواب عن الأمر الرابع :
و أما الأمر الرابع ، و هو الاختلاف فيه على سعيد بن أبي مريم ، فالجواب عنه يمكن أن يؤخذ من الفصل السابق ، و لكن لا بد من إيضاحه فأقول :
لم يقل أحد ممن روى هذا الحديث عن ابن أبي مريم أو غيره ثقة كان أو ضعيفاً أن القصة وقعت في (( يوم يشكون )) الذي هو قبيل رمضان إلا يحيى بن أيوب العلاف المتقدم ، خلافاً لرواية الثقات الآخرين الذين ذكروا قبله و هم عثمان الدارمي و إسماعيل بن إسحق ، و البخاري ، فهؤلاء كلهم قالوا عن ابن أبي مريم : أن القصة كانت في رمضان ، و كذلك قال عيسى بن مينا عن محمد بن جعفر ، و كذلك قال الدراوردي و عبد الله بن جعفر عن زيد بن أسلم عن محمد بن المنكدر ، و كذلك قال ابن مجبر عن ابن المنكدر .
فاتفاق هؤلاء كلهم على ذلك خلافاً لرواية العلاف أكبر دليل على ضعف روايته و شذوذها .
و أما استرواح الشيخ إلى متابعة خالد بن نزار لابن أبي مريم فمما لا يقام له وزن عند من يعلم ، ذلك لأن خالداً نفسه فيه ضعف من قبل حفظه كما يشير إلى ذلك قول الحافظ فيه (( صدوق يخطئ )) ، ثم إن الراوي عنه : المقدام بن داود واه جداً ، قال النسائي : (( ليس بثقة )) ، فهل يعتمد عالم بالقواعد الحديثية عنده ذرة من الإنصاف بـهذه المتابعة ، و هذه حال صاحبها ، و الراوي عنها ، مع ما فيها من المخالفة الصريحة لما رواه الثقات الأثبات ؟!
و من ذلك يتبين أن لا أثر لهذا الاختلاف على ابن مريم في صحة الحديث ، و أن الإفطار فيه إنما كان في رمضان من أجل السفر ، لا قبله من أجل يوم الشك .
و بذلك يسقط آخر ما تشبث به الشيخ في تضعيفه للحديث ، و يتضح لكل ذي عينين صحة الحديث باللفظ الذي رواه الترمذي صدر به الشيخ مقاله !
و إن من الأمور التي لا ينقضي العجب منها تصريح الشيخ في رسالته (( التعقب )) ( ص 21 ) أنه ليس لمثله وظيفة التصحيح و التضعيف ، ثم تراه في هذا المقال يصرح بتضعيف ما تتابع العلماء على تصحيحه ، من الترمذي إلى ابن القيم ، مع تأييد القواعد الحديثية لذلك !
شهادة القرآن للحديث :
هذا و من المعلوم عند المشتغلين بالسنة ، أن الحديث الذي ورد من طريق فيه ضعف غير شديد أنه يقوى بمجيئه من طريق أخرى أو بوجود شاهد له و لو مثله في الضعف ، فكيف إذا كان الحديث صحيح الإسناد و كان له شاهد من القرآن الكريم فضلاً عن السنة المطهرة ، فإنه و الحالة هذه لا يشك من له أدنى إلمام بـهذا العلم في صحة الحديث و لو كان ضعيف الإسناد فكيف إذا كان صحيح الإسناد لذاته ، فلا ريب أنه بذلك يزداد قوة على قوة .
و حديثنا هذا من هذا القبيل ، فإنه صحيح الإسناد ، كما أثبتنا ذلك بتحكيم قواعد هذا العلم عليه ، مع الاستئناس بأقوال العلماء الذين سبق ذكرهم ممن صححوه ، و له شاهد من القرآن الكريم و السنة .
أما القرآن فهو قول الله تبارك و تعالى : ( فمن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ) ، فإن قوله ( على سفر ) يشمل من تأهب للسفر و لما يخرج ، و قد صرح الإمام القرطبي في تفسيره (( الجامع لأحكام القرآن )) كما سيأتي أن ذلك مقتضى الآية ، و هذا واضح لا شك فيه عند المنصفين العارفين إن شاء الله تبارك و تعالى .
شاهد للحديث من السنة :
أما الشاهد من السنة ، فهو ما أخرجه أحمد ( 6/398 ) من طريق منصور الكلبي عن دحية بن خليفة رضي الله عنه أنه خرج من قريته إلى قريب من قرية عقبة في رمضان ، ثم إنه أفطر و أفطر معه ناس ، و كره آخرون أن يفطروا ، قال : فلما رجع إلى قريته ، قال : و الله لقد رأيت اليوم أمراً ما كنت أظن أن أراه ! إن قوماً رغبوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه ! يقول ذلك للذين صاموا ، ثم قال عند ذلك : اللهم اقبضني إليك .
و أخرجه أبو داود ( رقم 2413 ) .
قلت : و رجال إسناده ثقات محتج بـهم في الصحيحين غير منصور هذا ، فقال فيه العجلي في (( كتاب الثقات ))(11) : (( مصري تابعي ثقة )) و وثقه ابن حبان أيضاً فأورده في (( الثقات )) ( 1/124 ) ، لكن قال فيه ابن المديني و غيره : (( مجهول )) ، و هذا هو الراجح عندي : أنه مجهول ، و هو معنى قول الحافظ فيه : (( مستور )) ، و لكن ذلك لا يمنع عندنا و لا عند الشيخ من الاستشهاد بحديثه ، لأن ذلك هو الذي تقرر في (( المصطلح )) ، و إليك ما قاله الشيخ الحبشي نفسه في نحو هذه المناسبة ، قال في (( التعقب )) ( ص 5 ) : (( فالجهالة من القسم الذي إذا تابع صاحبه غيره ممن هو مثله أو فوقه انجبر ضعفه ، و صار حديثه مقبولاً حسناً )) .
و عليه فالحديث مقبول عند الشيخ ، أو يلزم أن يكون مقبولاً عنده لأنه جاء من طريق أخرى و هي طريق أنس ، هذا لو سلم له أنـها ضعيفة ، فكيف و هي صحيحة على ما سبق تحقيقه ؟!
بل إن الشيخ يلزمه أن يقول بصحة إسناد الحديث لذاته ، إذا أراد أن لا يكون متناقضاً في تطبيق النهج الذي سلكه في تصحيح بعض الأحاديث في رسالته المشار إليها ! ذلك لأن الحديث ليس فيهم من يشك في عدالته غير منصور الكلبي ، و قد وثقه ابن حبان ، كما سبق و توثيقه عند الشيخ معتبر ، فقد وثق في رسالته ( ص 19 و 23 ) خزيمة و كنانة المجهولين ، بناء على توثيق ابن حبان إياهما ، و قال ( ص 23 و 26 ) في الجواب عن تجهيلنا إياهما تبعاً للحافظ الذهبي : (( إن جهالة الحال و جهالة العين ترتفع بتوثيق حافظ من أئمة الجرح ، و قد وثقهما ابن حبان )) !
و إذ الأمر كذلك عند الشيخ ، فيلزمه القول بعدالة منصور هذا ، و حينئذ فالحديث صحيح عنده لا علة فيه ، و هذا أمر لازم لازب لا مفر للشيخ منه ، و لا يستطيع أن يماري فيه ، إن كان طالباً للحق منصفاً كما آمل .
ثم إن دلالة الحديث على ما دل عليه حديث أنس من جواز الإفطار المختلف فيه واضح كل الوضوح ، فإن قوله : (( ثم إن أفطر ، و أفطر معه ناس )) صريح أو كالصريح في أنـهم خرجوا من القرية صائمين ثم أفطروا ، فلا يرد عليه ما أورده الشيخ على حديث أبي بصرة من عدم دلالته على المطلوب في زعمه ، و كأنه لذلك أعرض الشيخ عن ذكره فلم يتعرض له بجواب البتة لأنه حجة عليه ! و هذا شيء نود أن ننزه الشيخ عنه ، و لكن الأمر يحتاج إلى مساعدة منه !!
و حديث أبي بصرة المشار إليه هو في الحقيقة شاهد ثان للحديث و سيأتي الجواب عن كلام الشيخ عليه قريباً إن شاء الله تعالى .
آثار صحيحة تشهد للحديث :
هذا ، و إن مما يزيد الحديث قوة أنه جاء عن طائفة من الصحابة و غيرهم العمل بنحو ما فيه و خلاف ما ذهب إليه المانعون من الإفطار بعد الخروج ، فأنا أذكر ما وقفت عليه من الروايات عنهم إتماماً للفائدة :
1- عن اللجلاج قالوا ( كذا الأصل و لعله : اللجلاج و غيره قالوا ) : كنا نسافر مع عمر رضي الله عنه ثلاثة أميال فيتجوز في الصلاة و يفطر .
رواه ابن أبي شيبة في (( المصنف )) ( 2/ 151/ 2 ) بإسناد حسن أو قريب منه .